قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان* فإذا انشقت } ، انفرجت ، { السماء } ، فصارت أبواباً لنزول الملائكة . { فكانت وردة } أي كلون الفرس الورد ، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة ، قال قتادة : إنها اليوم خضراء ، ويكون لها يومئذ لون آخر يضرب إلى الحمرة . وقيل : إنها تتلون ألوانا يومئذ كلون الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أحمر فإذا اشتد الشتاء كان أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه . { كالدهان } جمع دهن . شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل ، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه ، وهو قول الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع . وقال عطاء بن أبي رباح : كالدهان كعصير الزيت يتلون في الساعة ألوانا وقال مقاتل : كدهن الورد الصافي . وقال ابن جريج تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم . وقال الكلبي : كالدهان أي كالأديم الأحمر وجمعه أدهنة ودهن .
{ 37 } { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ }
{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ } [ أي ] يوم القيامة من شدة الأهوال ، وكثرة البلبال ، وترادف الأوجال ، فانخسفت شمسها وقمرها ، وانتثرت نجومها ، { فَكَانَتْ } من شدة الخوف والانزعاج { وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } أي : كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة ، ومن العذاب الذى يحيط بالمجرمين ، وينزل بهم ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا انشقت . . . } .
جواب " إذا " فى قوله - سبحانه - : { فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } محذوف لتهويل أمره . . .
وقوله - سبحانه - : { فَكَانَتْ وَرْدَةً } تشبيه بليغ ، أى : فكانت كالوردة فى الحمرة .
والوردة جمعها ورود ، وهى زهرة حمراء معروفة ذات أغصان شائكة . والدهان : ما يدهن به الشىء . . . أى : فإذا انشقت السماء ، فصارت حين انشقاقها وتصدعها ، كالوردة الحمراء فى لونها ، وكالدهان الذى يدهن به الشىء فى ذوبانها وسيلانها ، رأيت ما يفزع القلوب ، ويزلزل النفوس من شدة الهول .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } وقوله - سبحانه - : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً }
ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر . مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة . وما يعقبه من مشاهد الحساب . ومشاهد العذاب والثواب .
ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني :
( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ) .
وردة حمراء ، سائلة كالدهان . . ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب ، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن ، وينسق بين مداراتها وحركاتها . منها هذه الآية . ومنها : ( إذا رجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت هباء منبثا ) . .
ومنها : ( فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ) . . ومنها : ( إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت . وإذا العشار عطلت . وإذا الوحوش حشرت . وإذا البحار سجرت ) . .
ومنها : ( إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت . وإذا البحار فجرت ) . . ومنها : ( إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت ) . . وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله . ولا يعلم حقيقته إلا الله . .
يقول [ تعالى ] {[27897]} : { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ } يوم القيامة ، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها ، كقوله : { وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [ الحاقة : 16 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [ الفرقان : 25 ] ، وقوله : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 1 ، 2 ] .
وقوله : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } أي : تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك ، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء ، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم . وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء ، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يبعث الناس يوم القيامة والسماء تَطِش عليهم " {[27898]} .
قال الجوهري : الطش : المطر الضعيف .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } ، قال : هو الأديم الأحمر . وقال أبو كُدَيْنة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } : كالفرس الورد . وقال العوفي ، عن ابن عباس : تغير لونها . وقال أبو صالح : كالبِرْذَون الورد ، ثم كانت بعد كالدهان .
وحكى البَغَوي وغيره : أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء ، وفي الشتاء حمراء ، فإذا اشتد البرد اغْبَرَّ لونها .
وقال الحسن البصري : تكون ألوانا . وقال السدي . تكون كلون البغلة الوردة ، وتكون كالمهل كدردي الزيت . وقال مجاهد : { كَالدِّهَان } : كألوان الدهان . وقال عطاء الخراساني : كلون دُهْن الوَرْد في الصفرة . وقال قتادة : هي اليوم خضراء ، ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان . وقال أبو الجوزاء : في صفاء الدهن . وقال [ أبو صالح ]{[27899]} بن جريج : تصير السماء كالدهن الذائب ، وذلك حين يُصيبها حر جهنم .
جواب «إذا » محذوف مقصود به الإبهام ، كأنه يقول : { فإذا انشقت السماء } فما أعظم الهول ، وانشقاق السماء انفطارها عند القيامة . وقال قتادة : السماء اليوم خضراء وهي يوم القيامة حمراء ، فمعنى قوله : { وردة } أي محمرة كالوردة وهي النوار المعروف . وهذا قول الزجاج والرماني . وقال ابن عباس وأبو صالح والضحاك : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون { السماء } مؤنثة .
واختلف الناس في قوله : { كالدهان } فقال مجاهد والضحاك : هو جمع دهن ، قالوا وذلك أن السماء يعتريها يوم القيامة ذوب وتميع من شدة الهول . وقال بعضهم : شبه لمعانها بلمعان الدهن . وقال جماعة من المتأولين الدهان : الجلد الأحمر ، وبه شبهها ، وأنشد منذر بن سعيد : [ الطويل ]
يبعن الدهان الحمر كل عشية . . . بموسم بدر أو بسوق عكاظ{[10836]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فإذَا انْشَقّتِ السّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كالدّهانِ "يقول تعالى ذكره: فإذا انشقّت السماء وتفطّرت، وذلك يوم القيامة، فكان لونها لون البرذون الورد الأحمر... عن ابن عباس "فَكانَتْ وَرْدَةً كالدّهانِ" قال: كالفرس الورد...
قال: قال ابن زيد، في قوله: فَكانَتْ وَرْدَةً كالدّهان قال: مشرقة كالدهان.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "كالدّهانِ"؛
فقال بعضهم: معناه كالدهن صافية الحمرة مشرقة...
وقال آخرون: عني بذلك: فكانت وردة كالأديم، وقالوا: الدهان: جماع، واحدها دهن.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني به الدهن في إشراق لونه، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [{فبأي آلاء ربكما تكذبان}] يذكر تغير هذا العالم يومئذ وهول ذلك اليوم، وهو كما ذكر من تبديل السماء حين قال: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقال: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} [الأنبياء: 104] وغير ذلك من الآيات. وكذلك ما ذكر من تغيير الجبال في قوله: {هباء منثورا} [الفرقان: 23] وقوله: {كئيبا مهيلا} [المزمل: 14] وقوله: {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] ونحو ذلك. ثم قوله تعالى: {فكانت وردة كالدهان}... ومنهم من قال: شبهها بالدهان، وهو الدهن، للينها وضعفها، وهو كما ذكر في آية أخرى: {يوم تكون السماء كالمهل} [المعارج: 8] والمهل هو دردي الزيت. لكن التشبيه بالمهل إنما يكون لكثرة التلون لا للين. فيكون في هذا التأويل نوع وهي، والله أعلم. وقيل إنما تحمرّ، وتذوب كالدهن...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَكَانَتْ وَرْدَةً} فيه وجهان:
أحدهما: وردة البستان، وهي حمراء، وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها الحمرة، وبها يضرب المثل في لون الحمرة،... كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد...
وفي قوله: {كَالدِّهَانِ} خمسة أوجه:...أحدها: يعني خالصة...
. الرابع: صفراء كلون الدهن ....
... وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
جواب «إذا» محذوف مقصود به الإبهام، كأنه يقول: {فإذا انشقت السماء} فما أعظم الهول، وانشقاق السماء انفطارها عند القيامة...
فمعنى قوله: {وردة} أي محمرة كالوردة وهي النوار المعروف...
وقال بعضهم: شبه لمعانها بلمعان الدهن...
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان، فبأي آلاء ربكما تكذبان} إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن، فكأنه تعالى ذكر أولا ما يخاف منه الإنسان، ثم ذكر ما يخاف منه كل واحد ممن له إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أماكنهم بالشق ومساكن الجن والإنس بالخراب...فإذا انشقت السماء يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه كما قال تعالى: {إذا السماء انشقت}...
نقول: حقيقته ذوبانها وخرابها كما قال تعالى: {يوم نطوي السماء} إشارة إلى خرابها ويحتمل أن يقال: انشقت بالغمام كما قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام}...
. {فكانت وردة كالدهان}... يحتمل وجها آخر وهو أن يقال: وردة للمرة من الورود كالركعة والسجدة والجلسة والقعدة من الركوع والسجود والجلوس والقعود، وحينئذ الضمير في كانت كما في قوله: {إن كانت إلا صيحة واحدة} أي الكائنة أو الداهية وأنث الضمير لتأنيث الظاهر وإن كان شيئا مذكرا، فكذا هاهنا قال: {فكانت وردة} واحدة أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة، وتزلزل الكل وخرب دفعة، والحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك، ويتزلزل،... ولكن ما المناسبة بين الوردة وبين الدهان؟
(الأول) المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى: {يوم تكون السماء كالمهل} وهو عكر الزيت وبينهما مناسبة، فإن الورد يطلق على الأسد فيقال: أسد ورد، فليس الورد هو الأحمر القاني.
(والثاني) أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان.
(والثالث) هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة ويذوب دفعة والحديد والرصاص لا يذوب غاية الذوبان، فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره فكأنه قال حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صبا لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه وينتفع به ويبقي الباقي، وكذلك الحديد والنحاس، وجمع الدهان لعظمة السماء وكثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان). وردة حمراء، سائلة كالدهان.. ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن، وينسق بين مداراتها وحركاتها. منها هذه الآية. ومنها: (إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا)...
. ومنها: (فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر).. ومنها: (إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت).. ومنها: (إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت. وإذا البحار فجرت).. ومنها: (إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت).. وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله. ولا يعلم حقيقته إلا الله...