مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ وَرۡدَةٗ كَٱلدِّهَانِ} (37)

قوله تعالى : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان } إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن ، فكأنه تعالى ذكر أولا ما يخاف منه الإنسان ، ثم ذكر ما يخاف منه كل واحد ممن له إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أماكنهم بالشق ومساكن الجن والإنس بالخراب ، ويحتمل أن يقال : إنه تعالى لما قال : { كل من عليها فان } إشارة إلى سكان الأرض ، قال بعد ذلك : { فإذا انشقت السماء } بيانا لحال سكان السماء ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الفاء في الأصل للتعقيب على وجوه ثلاثة منها : التعقيب الزماني للشيئين اللذين لا يتعلق أحدهما بالآخر عقلا كقوله قعد زيد فقام عمرو ، لمن سألك عن قعود زيد وقيام عمر ، وإنهما كانا معا أو متعاقبين ( ومنها ) التعقيب الذهني للذين يتعلق أحدهما بالآخر كقولك : جاء زيد فقام عمرو إكراما له إذ يكون في مثل هذا قيام عمرو مع مجيء زيد زمانا ( ومنها ) التعقيب في القول كقولك : لا أخاف الأمير فالملك فالسلطان ، كأنك تقول : أقول لا أخاف الأمير ، وأقول لا أخاف الملك ، وأقول لا أخاف السلطان ، إذا عرفت هذا فالفاء هنا تحتمل الأوجه جميعا ، ( أما الأول ) : فلأن إرسال الشواظ عليهم يكون قبل انشقاق السماوات ، ويكون ذلك الإرسال إشارة إلى عذاب القبر ، وإلى ما يكون عند سوق المجرمين إلى المحشر ، إذ ورد في التفسير أن الشواظ يسوقهم إلى المحشر ، فيهربون منها إلى أن يجتمعوا في موضع واحد ، وعلى هذا معناه يرسل عليكما شواظ ، فإذا انشقت السماء يكون العذاب الأليم ، والحساب الشديد على ما سنبين إن شاء الله ( وأما الثاني ) فوجهه أن يقال : ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس ) فيكون ذلك سببا لكون السماء تكون حمراء ، إشارة إلى أن لهيبها يصل إلى السماء ويجعلها كالحديد المذاب الأحمر ، ( وأما الثالث ) فوجهه أن يقال : لما قال : { فلا تنتصران } ] أي في وقت إرسال الشواظ عليكما قال : فإذا انشقت السماء وصارت كالمهل ، وهو كالطين الذائب ، كيف تنتصران ؟ إشارة إلى أن الشواظ المرسل لهب واحد ، أو فإذا انشقت السماء وذابت ، وصارت الأرض والجو والسماء كلها نارا فكيف تنتصران ؟ .

المسألة الثانية : كلمة ( إذا ) قد تستعمل لمجرد الظرف وقد تستعمل للشرط وقد تستعمل للمفاجأة وإن كانت في أوجهها ظرفا لكن بينها فرق ( فالأول ) : مثل قوله تعالى : { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } ( والثاني ) مثل قوله : إذا أكرمتني أكرمك ومن هذا الباب قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } وفي الأول لا بد وأن يكون الفعل في الوقت المذكور متصلا به وفي الثاني لا يلزم ذلك ، فإنك إذا قلت : إذا علمتني تثاب يكون الثواب بعده زمانا لكن استحقاقه يثبت في ذلك الوقت متصلا به ( والثالث ) مثال ما يقول : خرجت فإذا قد أقبل الركب أما لو قال : خرجت إذا أقبل الركب فهو في جواب من يقول متى خرجت إذا عرفت هذا فنقول : على أي وجه استعمل ( إذا ) هاهنا ؟ نقول : يحتمل وجهين ( أحدهما ) الظرفية المجردة على أن الفاء للتعقيب الزماني ، فإن قوله : { فإذا انشقت السماء } بيان لوقت العذاب ، كأنه قال : إذا انشقت السماء يكون العذاب أي بعد إرسال الشواظ ، وعند انشقاق السماء يكون ( وثانيهما ) الشرطية وذلك على الوجه الثالث وهو قولنا : { فلا تنتصران } عند إرسال الشواظ فكيف تنتصران إذا انشقت السماء ، كأنه قال : إذا انشقت السماء فلا تتوقعوا الانتصار أصلا ، وأما الحمل على المفاجأة على أن يقال : ( يرسل عليكما شواظ ) فإذا السماء قد انشقت ، فبعيد ولا يحمل ذلك إلا على الوجه الثاني من أن الفاء للتعقيب الذهني .

المسألة الثالثة : ما المختار من الأوجه ؟ نقول : الشرطية وحينئذ له وجهان ( أحدهما ) أن يكون الجزاء محذوفا رأسا ليفرض السامع بعده كل هائل ، كما يقول القائل : إذا غضب السلطان على فلان لا يدري أحد ماذا يفعله ، ثم ربما يسكت عند قوله إذا غضب السلطان متعجبا آتيا بقرينة دالة على تهويل الأمر ، ليذهب السامع مع كل مذهب ، ويقول : كأنه إذا غضب السلطان يقتل ويقول الآخر : إذا غضب السلطان ينهب ويقول الآخر غير ذلك ( وثانيهما ) : ما بينا من بيان عدم الانتصار ويؤيد هذا قوله تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام } إلى أن قال تعالى : { وكان يوما على الكافرين عسيرا } فكأنه تعالى قال : إذا أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران ، فإذا انشقت السماء كيف ينتصران ؟ فيكون الأمر عسيرا ، فيكون كأنه قال : فإذا انشقت السماء يكون الأمر عسيرا في غاية العسر ، ويحتمل أن يقال : فإذا انشقت السماء يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه كما قال تعالى : { إذا السماء انشقت } إلى أن قال : { يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } الآية .

المسألة الرابعة : ما المعنى من الانشقاق ؟ نقول : حقيقته ذوبانها وخرابها كما قال تعالى : { يوم نطوي السماء } إشارة إلى خرابها ويحتمل أن يقال : انشقت بالغمام كما قال تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام } وفيه وجوه منها أن قوله : { بالغمام } أي مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا هاهنا من الانفطار والخراب .

المسألة الخامسة : ما معنى قوله تعالى : { فكانت وردة كالدهان } ؟ نقول : المشهور أنها في الحال تكون حمراء يقال : فرس ورد إذا أثبت للفرس الحمرة ، وحجرة وردة أي حمراء اللون . وقد ذكرنا أن لهيب النار يرتفع في السماء فتذوب فتكون كالصفر الذائب حمراء ، ويحتمل وجها آخر وهو أن يقال : وردة للمرة من الورود كالركعة والسجدة والجلسة والقعدة من الركوع والسجود والجلوس والقعود ، وحينئذ الضمير في كانت كما في قوله : { إن كانت إلا صيحة واحدة } أي الكائنة أو الداهية وأنث الضمير لتأنيث الظاهر وإن كان شيئا مذكرا ، فكذا هاهنا قال : { فكانت وردة } واحدة أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة ، وتزلزل الكل وخرب دفعة ، والحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك ، ويتزلزل ، وقوله تعالى : { كالدهان } فيه وجهان ( أحدهما ) جمع دهن و( ثانيهما ) أن الدهان هو الأديم الأحمر ، فإن قيل : الأديم الأحمر مناسب للوردة فيكون معناه كانت السماء كالأديم الأحمر ، ولكن ما المناسبة بين الوردة وبين الدهان ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه ( الأول ) المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى : { يوم تكون السماء كالمهل } وهو عكر الزيت وبينهما مناسبة ، فإن الورد يطلق على الأسد فيقال : أسد ورد ، فليس الورد هو الأحمر القاني ( والثاني ) أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان ( والثالث ) هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة ويذوب دفعة والحديد والرصاص لا يذوب غاية الذوبان ، فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره فكأنه قال حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صبا لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه وينتفع به ويبقي الباقي ، وكذلك الحديد والنحاس ، وجمع الدهان لعظمة السماء وكثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها ، فإن الكواكب تخالف غيرها .