وبعد أن بين - سبحانه - ما يدل على وحدانيته وقدرته عن طريق خلقه للسموات والأرض وللإِنسان ، أتبع ذلك ببيان أدلة وحدانيته وقدرته عن طريق خلق الحيوان فقال - تعالى - : { والأنعام خَلَقَهَا ، لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ، وَمَنَافِعُ ، وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } .
والأنعام : جمع نعم ، وهى الإِبل والبقر والغنم ، وقد تطلق على الإِبل خاصة .
وانتصب الأنعام عطفا على الانسان فى قوله : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } ، أو هو منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور بعده . أى : وخلق الأنعام خلقها .
والدفء : السخونة . ويقابله شدة البرد ، يقال : دَفِئَ الرجل - من باب طرب - فهو دَفَأً - كتعب - ودفآن ، إذا لبس ما يدفئه ، ويبعد عنه البرد .
والمراد بالدفء هنا : ما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها لهذا الغرض .
وعطف { منافع } على { دفء } من باب عطف العام على الخاص ، إذ المنافع تشمل ما يستدفأ به منها وغيره .
وخص الدفء بالذكر من عموم المنافع ، للعناية به وللتنويه بأهميته فى حياة الناس .
أى : ومن مظاهر نعم الله - تعالى - عليكم - أيها الناس - ، أن الله - تعالى - خلق الأنعام ، وجعل لكم فيها ما تستدفئون به ، من الثياب المأخوذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، فتقيكم برودة الجو وجعل لكم فيها منافع متعددة ، حيث تتخذون من ألبانها شرابا سائغا للشاربين ، ومن لحومها أكلا نافعا للآكلين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
وفي هذا المجال الواسع - مجال الكون : السماوات والأرض - الذي يقف فيه الإنسان ، يأخذ السياق في استعراض خلق الله الذي سخره للإنسان ، ويبدأ بالأنعام :
( والأنعام خلقها ، لكم فيها دفء ومنافع ، ومنها تأكلون . ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، إن ربكم لرؤوف رحيم ، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون ) . .
وفي بيئة كالبيئة التي نزل فيها القرآن أول مرة ، وأشباهها كثير ؛ وفي كل بيئة زراعية والبيئات الزراعية هي الغالبة حتى اليوم في العالم . . في هذه البيئة تبرز نعمة الأنعام ، التي لا حياة بدونها لبني الإنسان . والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة كانت هي الإبل والبقر والضأن والمعز . أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة ولا تؤكل والقرآن إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر وتلبية لأشواقهم كذلك : ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار والأشعار ، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وما إليها . ومنها تأكلون لحما ولبنا وسمنا ، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد لا يبلغونه إلا بشق الأنفس .
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج ، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع ، من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ، ومن ألبانها يشربون ، ويأكلون من أولادها ، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ؛ ولهذا قال : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ }
{ والأنعام } الإبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره . { خلقها لكم } أو بالعطف على الإنسان ، وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله وما بعده تفصيل له . { فيها دفء } ما يدفأ به فيقي البرد . { ومنافع } نسلها ودرها وظهورها ، وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول عوضها . { ومنها تأكلون } ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان ، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي ، أو لأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش ، وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه .
{ الأنعام } الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ، ولا يقال للغنم مفردة ، ونصبها إما عطف على { الإنسان } [ النحل : 4 ] وإما بفعل مقدر وهو أوجه{[7246]} ، و «الدفء » السخانة{[7247]} وذهاب البرد بالأكسية ونحوها ، وذكر النحاس عن الأموي أنه قال : الدفء في لغة بعضهم تناسل الإبل .
قال القاضي أبو محمد : وقد قال ابن عباس : نسل كل شيء ، وقد قال ابن سيده : «الدفء » نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها ، والمعنى الأول هو الصحيح ، وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفء » بضم الفاء وشدها وتنوينها{[7248]} ، و «المنافع » ألبانها وما تصرف منها ودهونها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك ، ثم ذكر «الأكل » الذي هو من جميعها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.