الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ} (5)

قوله تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا } : العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان ، أحدُهما : نصبٌ على الاشتغالِ ، وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ . والثاني : أنه نصبٌ على عَطْفِه على " الإِنسان " ، قاله الزمخشريُّ وابنُ عطية ، فيكون " خَلَقَها " على هذا مؤكِّداً ، وعلى الأول مفسِّراً . وقُرئ في الشاذِّ " والأنعامُ " رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ .

قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يَتَعَلَّقَ " لكم " ب " خَلَقَها " ، أي : لأجلِكم ولمنافعِكم ، ويكون " فيها " خبراً مقدماً ، " ودِفْءٌ " مبتدأً مؤخراً . ويجوز أن يكونَ " لكم " هو الخبر ، و " فيها " متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، أو يكونَ " فيها " حالاً من " دِفْء " لأنه لو تاخَّر لكان صفةً له ، أو يكونَ " فيها " هو الخبرَ ، و " لكم " متعلِّقٌ بما تعلَّق به ، أو يكونَ حالاً مِنْ " دِفْء " قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها ، لا يجوز : " قائماً في الدار زيدٌ " فإنْ تأخَّرَتْ نحو : " زيدٌ في الدار قائماً " جازَ بلا خلافٍ ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ ، أجازه الأخفشُ ، ومنعه غيرُه .

قلت : ولقائلٍ أن يقولَ : لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها ، إلاَّ أنْ يقولَ : لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ ، لزيادةِ القبح .

وقال أبو البقاء أيضاً : " ويجوز أَنْ يرتفعَ " دِفْء " ب " لكم " أو ب " فيها " والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب " . قال الشيخ : " ولا تُسَمَّى جملةً ؛ لأنَّ التقدير : خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ " قلت " قد تقدَّم الخلاف في تقدير متعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً : هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً ؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا .

والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به ، أي : يُسْخَنُ ، وجمعُه أدْفاء ، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِىءٌ ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأَى ، كسَكْران وسَكْرى . والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد : الإِبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ . قيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإِبل وألبانُها ، وما يُنْتفع به منها .

وقرأ زيدُ بنُ عليّ " دِفٌ " بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء ، والزهريُّ كذلك ، إلا أنه شَدَّدَ الفاء ، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم : " هذا فَرُخّْ " بالتشديد وقفاً . وقال صاحب " اللوامح " : " ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفاً " . قلت : التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها .

قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } " مِنْ " هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ . قال الزمخشري : فإن قلت : تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها . قلت : الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به " .