مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ} (5)

قوله تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة . وهي الحواس الظاهرة والباطنة ، والشهوة والغضب ، ثم هذه الحيوانات قسمان : منها ما ينتفع الإنسان بها ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم الأول : أشرف من الثاني ، لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل . وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره ، ثم نقول : والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك ، وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها ، والقسم الأول أشرف من الثاني ، وهذا القسم هو الأنعام ، فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية ، فقال : { والأنعام خلقها لكم } .

واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي : الضأن ، والمعز . والإبل . والبقر ، وقد يقال أيضا : الأنعام ثلاثة : الإبل . والبقر . والغنم . قال صاحب «الكشاف » : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل . وقوله : { والأنعام } منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى : { والقمر قدرناه منازل } ويجوز أن يعطف على الإنسان . أي خلق الإنسان والأنعام ، قال الواحدي : تم الكلام عند قوله : { والأنعام خلقها } ثم ابتدأ وقال : { لكم فيها دفء } ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله : { لكم } ثم ابتدأ وقال : { فيها دفء } قال صاحب «النظم » : أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : { خلقها } والدليل عليه أنه عطف عليه قوله : { ولكم فيها جمال } والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال .

المسألة الثانية : أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع ، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية .

فالمنفعة الأولى : قوله : { لكم فيها دفء } وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية ، قال الأصمعي : ويكون الدفء السخونة . يقال : أقعد في دفء هذا الحائط ، أي في كنه . وقرئ : { دف } بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء .

والمنفعة الثانية : قوله : { ومنافع } قالوا : المراد نسلها ودرها ، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم ، لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود ، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل .

والمنفعة الثالثة : قوله : { ومنها تأكلون } .

فإن قيل : قوله : { ومنها تأكلون } يفيد الحصر وليس الأمر كذلك ، فإنه قد يؤكل من غيرها ، وأيضا منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس ، فلم أخر منفعته في الذكر ؟

قلنا : الجواب عن الأول : إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر ، فيشبه غير المعتاد . وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أيضا أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر ، والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وأيضا تكتسبون بإكراء الإبل وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم .

والجواب عن السؤال الثاني : أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم ، فلهذا قدمه عليه في الذكر .

واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام .