اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ} (5)

قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } الآية هذه الدلالة الثالثة ؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة ، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب .

قوله : { والأنعام خَلَقَهَا } العامة على النصب ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة .

والثاني : أنه نصب على عطفه على " الإنْسانَ " ، قاله الزمخشريُّ ، وابن عطيَّة فيكون " خَلقَهَا " على هذا مؤكداً ، وعلى الأول مفسراً .

وقرئ{[19696]} شاذًّا " والأنْعَامُ " رفعاً وهي مرجوحةٌ .

قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يتعلق " لكم " ب " خلقها " ، أي : لأجلكم ولمنافعكم ، ويكون " فيها " خبراً مقدماً ، و " دفء " مبتدأ مؤخرٌ ، ويجوز أن يكون " لَكُمْ " هو الخبر ، أو يكون " فيها " هو الخبر ، و " لكم " متعلق بما تعلَّق به الخبر ، أو يكون " فيها " حالاً من " دفءٌ " لأنه لو تأخر لكان صفة له ، أو يكون " فيها " هو الخبر ، و " لكم " متعلق بما تعلق به ، أو يكون حالاً من " دفء " قاله أبو البقاء{[19697]} .

وردَّه أبو حيَّان{[19698]} : بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا ، فلا يتقدم على الجملة بأسرها ، ولا يجوز " قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ " فإن تأخَّرت نحو " زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً " جاز بلا خلافٍ ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره .

ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها ، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح .

وقال أبو البقاء أيضاً : " ويجوز أن يرتفع " دِفْءٌ " ب " لَكُمْ " أو ب " فِيهَا " والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب " .

قال أبو حيان " ولا يسمَّى جملة ، لأنَّ التقدير : خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ " .

قال شهابُ الدِّين : " قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراً ، هل يقدر فعلاً أو اسماً ، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا " .

والدِّفءُ : اسم لما يدفأ به ، أي : يسخنُ .

قال الأصمعيُّ : ويكون الدفءُ السخونة ، يقال : اقعد في دفء هذا الحائط ، أي : في كنفه ، وجمعه أدفَاء ، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأى ، كَسَكْران ، وسَكْرَى .

والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد ، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم ، وقيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها .

وقرأ زيد بن علي : " دِفٌ " بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ ، والزهريُّ : كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء ، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف ، نحو قولهم : هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً .

وقال صاحب اللَّوامحِ : " ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً " .

قال شهابُ الدِّين{[19699]} : والتشديد وقفاً : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها .

قوله " ومَنافِعُ " أراد النَّسْل ، والدَّرَّ ، والركوب ، والحملَ ، وغيرها ، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة ؛ لأنَّه الأعمُّ ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب ، وسائر الضَّرورياتِ ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل .

فصل

الحيوانات قسمان :

منها ما ينتفع به الإنسان ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم المنتفع به [ أفضل ]{[19700]} من الثاني ، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته ، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته ، والأول أشرف وهو الأنعام ، فلهذا يدأ بذكره فقال : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي عبارة عن الأزواج الثمانية ، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل .

قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله : { والأنعام خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } .

قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : " خَلَقَهَا " ؛ لأنه عطف عليه


[19696]:ينظر: الإملاء 2/78.
[19697]:ينظر: البحر المحيط 5/460.
[19698]:ينظر: الدر المصون 4/313.
[19699]:ينظر: الدر المصون 4/313.
[19700]:في ب: أشرف.