البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ} (5)

الدفء اسم لما يدَّفأ به أي يسخن . وتقول العرب : دفئ يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد ، ودفئ الرجل فداء ودفأ ، وجمع الدفء أدفاء . ورجل دفآن وامرأة دفأى ، والدفئة الإبل الكثيرة الأوبار ، لادفاء بعضها بعضاً بأنفاسها . وقد تشدَّد ، وعن الأصمعي الدفئة الكثيرة الأوبار والشحوم . وقال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها ، وما ينتفع به منها .

ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته ، فذكر أولاً أكثرها منافعا ، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام ، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام .

والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها ، ودفء مبتدأ وخبره لكم ، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار .

وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء ، إذ لو تأخر لكان صفة .

وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر ، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها ، لا يجوز : قائماً في الدار زيد ، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف ، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش ، ومنعه الجمهور .

وأجاز أيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بأل ، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى .

ولا تسمى جملة ، لأنّ التقدير : خلقها لكم فيها دفء ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء ، وهذا من قبيل المفرد ، لا من قبيل الجملة .

وجوزوا أن يكون لكم متعلقاً بخلقها ، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام .

ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله : ولكم فيها جمال ، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية .

وقال ابن عباس : الدفء نسل كل شيء ، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب .

والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال ، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت ، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام .

وقال الزمخشري ، وابن عطية : يجوز أن يكون قد عطف على البيان ، وعلى هذا يكون لكم استئناف ، أو متعلق بخلقها .

وقرأ الزهري وأبو جعفر : دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها ، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها ، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف ، إذ يجوز تشديدها في الوقف .

وقرأ زيد بن علي : دف بنقل الحركة ، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء .

وقال صاحب اللوامح : الزهري دف بضم الفاء من غير همز ، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة .

ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء ، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفاً .

وقال مجاهد : ومنافع الركوب ، والحمل ، والألبان ، والسمن ، والنضج عليها ، وغير ذلك .

وأفرد منفعة الأكل بالذكر ، كما أفرد منفعة الدفء ، لأنهما من أعظم المنافع .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : تقدم الظرف في قوله : ومنها تأكلون مؤذن ، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها ( قلت ) : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم ، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به ، وكالجاري مجرى التفكه .

وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص .

وقد رددنا عليه ذلك في قوله : { إياك نعبد } والظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك : إذا أكلت من الرغيف .

وقال الزمخشري : ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر ، والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وتكتسبون بإكراء الإبل ، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى .

فعلى هذا يكون التبعيض مجازاً ، أو تكون من للسبب .