معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ} (5)

وقوله : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَها لَكُمْ5 }

نصبت ( الأنعامَ ) بخلقها لما كانت في الأنعام واو . كذلك كلّ فعل عاد على اسم بِذكرِه ، قبل الاسم واو أو فاء أو كلام يحتمل نُقْلة الفعل إلى ذلك الحرف الذي قبل الاسم ففيه وجهان : الرفع والنصب . أما النصب فأن تجعل الواو ظَرْفا للفعل . والرفع أن تجعل الواو ظرفاً للاسم الذي هي معه . ومثله { وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ } { والسَّماء بَنَيناها بأَيْدٍ } وهو كثير .

ومثله : { وكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْناهُ طَائرَهُ } { وكُلَّ شيء أَحْصَيْناهُ } .

والوجه في كلام العرب رفع كُلّ في هذين الحرفين ، كان في آخره راجع من الذكر أو لم يكن لأنه في مذهب ما مِن شيء إلاّ قد أحصيناه في إمام مبين والله أعلم . سمعت العرب تُنشد :

ما كلُّ مَنْ يظَّنُّنِي أَن مُعْتب *** ولا كلُّ ما يَرْوَى على أقول

فلم يوقع على ( كلّ ) الآخرة ( أقول ) ولا على الأولى ( مُعتب ) . وأنشدنى بعضهم :

قد حَلِقت أَمُّ الخِيَار تَدَّعِي *** عليّ ذَنْبا كلُّه لم أصْنِع

وقرأ عليّ بعضُ العرب بسورة يس { وَكُلَّ شَيءٍ أَحْصَيْناهُ في إِمامٍ مُبِين } رفعاً قرأها غير مَرّة .

وأما قوله : { وكلُّ شيء فَعَلُوهُ في الزْبُر } فلا يكون إلاّ رفعاً ؛ لأن المعنى - والله أعلم - كلُّ فعلهم في الزبر مكتوب ، فهو مرفوع بِفى وَ ( فعلوه ) صلة لشيء . ولو كانت ( في ) صلة لفعلوه في مثل هذا من الكلام جاز رفع كل ونصبها ؛ كما تقول : وكلّ رجل ضربوه في الدار ، فإن أردت ضَرَبوا كلّ رجل في الدار رفعت ونصبت . وإن أردت : وكلّ من ضربوه هو في الدار رفعت .

وقوله : { لَكُمْ فِيها دِفْءٌ } وهو ما ينتفع به من أوبارها . وكتبت بغير همز لأن الهمزة إذا سكن ما قبلها حذفت من الكتاب ، وذلك لخفاء الهمزة إذا سُكِت عليها ، فلما سكن ما قبلها ولم يقدِروا على همزها في السكت كان سكوتهم كأنه على الفاء . وكذلك قوله : { يُخْرِجُ الخَبْء } و { النَشْأَةَ } و { مِلْء الأَرْضِ } واعمل في الهمز بما وجدت في هذين الحرفين .

وإن كتبت الدِّفء في الكلام بواو في الرفع وياء في الخفض وألِف في النصب كان صَوابا . وذلك على ترك الهمز وَنقل إعراب الهمزة إلى الحرف الذي قبلها . من ذلك قول العرب . هؤلاء نَشْءٌ صِدْق ، فإذا طَرحُوا الهمزة قالوا : هؤلاء نَشُو صِدْق ورأيت نَشَا صِدْق ومررت بِنَشِي صدق . وأجود من ذلك حذف الواو والألف والياء ؛ لأن قولهم : يَسَل أكثر من يَسَال ، ومَسَلة أكثر من مَسَالة وكذلك بين المَرِ وزوجه إذا تركت الهمزة .

والمنافع : حملهم على ظهورها ، وأولادُها وألبانها . والدفء : ما يلبسون منها ، ويبتنون من أوبارها .