قوله : { وكم أهلكنا من القرون } أي : المكذبة ، { من بعد نوح } ، يخوف كفار مكة ، { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } ، قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن مائة وعشرون سنة ، فبعث الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن ، وكان في آخره يزيد بن معاوية . وقيل : مائة سنة . وروي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر المازني " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال : سيعيش هذا الغلام قرناً " قال محمد بن القاسم فما زلنا نعد له حتى تم له مائة سنة ، ثم مات . قال الكلبي : ثمانون سنة . وقيل : أربعون سنة .
ثم بين - سبحانه - أن هذه القرية لم تكن بدعا فى نزول العذاب بها ، بل هناك قرى كثيرة عتت عن أمر ربها فأخذها - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر ، فقال - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ . . . } .
و { كم } هنا خبرية أى : أن معناها الإِخبار عن عدد كثير ، وهى فى محل نصب مفعول به لجملة { أهلكنا } و " من " فى قوله - تعالى - : { من القرون } بيان للفظ { كم } وتمييز له كما يميز العدد بالجنس . وأما " من " فى قوله - تعالى - : { مِن بَعْدِ نُوحٍ } فهى لابتداء الغاية .
والقرون : جمع قرن ، ويطلق على القوم المقترنين فى زمان واحد . والمشهور أن مدته مائة سنة .
أى : أن هذه القرية المدمرة بسبب فسوق أهلها ، وعصيانهم لأمرنا ، ليست هى القرية الوحيدة التى نزل بها عذابنا ، بل إننا قد أهلكنا كثيرا من القرى من بعد زمن نوح - عليه السلام - كقوم عاد وثمود وغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الكفر على الإِيمان والغى على الرشد .
وخص نوح - عليه السلام - بالذكر ، لأنه أول رسول كذبه قومه وآذوه وسخروا منه . . فأهلكهم الله - تعالى - بالطوفان .
قال ابن كثير : ودل هذا على أن القرون التى كانت بين آدم ونوح على الإِسلام ، كما قاله ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإِسلام .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالتهديد الشديد لمن يخالف أمره فقال - تعالى - : { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } .
أى : وكفى بربك - أيها الرسول الكريم - إحاطة واطلاعا وعلما بما يقدمه الناس من خير أو شر ، فإنه - سبحانه - يعلم السر وأخفى .
والآية الكريمة بجانب أنها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فهى - أيضا - تهديد للمشركين ، وإنذار لهم بأنهم إذا ما استمروا على كفرهم ، ومعاداتهم للحق ، وتطاولهم على من جاء به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فسيكونون محلا لغضب الله - تعالى - وسخطه ، ولنزول عذابه الذى أهلك به أمثالهم فى الشرك والكفر والجحود .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } وقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد }
يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أممًا من المكذبين للرسل من بعد نوح ، ودل هذا على{[17370]} أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام ، كما قاله{[17371]} ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة{[17372]} قرون كلهم على الإسلام .
ومعناه : أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم ، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى .
وقوله [ تعالى ]{[17373]} { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : هو عالم بجميع أعمالهم ، خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها خافية [ سبحانه وتعالى ]{[17374]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } .
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذّبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش ، وتهديدهم لهم بالعقاب ، وإعلام منه لهم ، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام أنه محلّ بهم سخطه ، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله ، وتكذيب رسله سبيلهم . يقول الله تعالى ذكره : وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به ، وتكذيب رسله ، على مثل الذي أنتم عليه ، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم ، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جلّ ثناؤه ، فيعذّب قوما بما لا يعذّب به آخرين ، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين يقول جلّ ثناؤه : فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم ، فقد بعثنا إليكم رسولاً ينبهكم على حججنا عليكم ، ويوقظكم من غفلتكم ، ولم نكن لنعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولاً منبها لهم على حجج الله ، وأنتم على فسوقكم مقيمون ، وكفى بربك يا محمد بذنوب عباده خبيرا يقول : وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوبن خلقه عالما ، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء ، ولا أفعال غيرهم من خلقه ، هو بجميع ذلك عالم خابر بصير ، يقول : يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . وقد اختلف في مبلغ مدّة القرن :
فحدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي محمد بن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : القرن : عشرون ومئة سنة ، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل قرن كان ، وآخرهم يزيد بن معاوية .
وقال آخرون : بل هو مئة سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي ، قال : حدثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، عن عبد الله بن بسر المازني ، قال : وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال : «سَيَعِيشُ هذَا الغُلام قَرْنا » قلت : كم القرن ؟ قال : «مِئَةُ سَنَةٍ » .
حدثنا حسان بن محمد ، قال : حدثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، قال : ما زلنا نعدّ له حتى تمّت مئة سنة ثم مات ، قال أبو الصلت : أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر . وقال آخرون في ذلك بما :
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، عن ابن سيرين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً » .
وقوله : وكَفَى بِرَبّكَ أدخلت الباء في قوله : بِرَبّكَ وهو في محلّ رفع ، لأن معنى الكلام : وكفاك ربك ، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا ، دلالة على المدح وكذلك تفعل العرب في كلّ كلام كان بمعنى المدح أو الذمّ ، تدخل في الاسم الباء والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدلّ بدخولها على المدح أو الذمّ كقولهم : أكرم به رجلاً ، وناهيك به رجلاً ، وجاد بثوبك ثوبا ، وطاب بطعامكم طعاما ، وما أشبه ذلك من الكلام ، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت ، لأنها في محلّ رفع ، كما قال الشاعر :
ويُخْبِرنُي عَنْ غائبِ المَرْءِ هَدْيُه *** ُكَفَى الهَدْىُ عَمّا غَيّبَ المَرْءُ مُخْبرا
فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذمّ فلا يدخلون في الاسم الباء لا يجوز أن يقال : قام بأخيك ، وأنت تريد : قام أخوك ، إلا أن تريد : قام رجل آخر به ، وذلك معنى غير المعنى الأوّل .
ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفيته في الآية السابقة ، فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود . وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدماً بإرسال الرسول إلى أهل القرية ، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا : { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي } [ هود : 27 ] وقال لهم نوح عليه السلام { ولا أقول للذين تزدري أعيُنكم لن يؤتيهم الله خيراً } [ هود : 31 ] .
فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهاراً لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب .
و ( كم ) في الأصل استفهام عن العدد ، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مُبهم النوع ، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد ، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظراً لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام . و { من القرون } تمييز للإبهام الذي اقتضته ( كم ) .
والقرون جمع قرن ، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة ، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا . وفي الحديث « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم » ، أراد أهل قرني ، أي أهل القرن الذي أنا فيه . وقال الله تعالى : { وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } [ الفرقان : 38 ] .
وتخصيص { من بعد نوح } إيجاز ، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم ، وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول ، واعتبر القَصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان ، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم .
ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له ، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول .
وجملة { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص ، لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب ، فلا جرم خُتم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم . وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها ، ولذلك جاء بفعل { كفى } وبوصفي { خبيراً بصيراً } المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم .
وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح . وفي الحديث : « ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » .
وفي ذكر فعل ( كفى ) إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافيه وحسبه ، قال : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة : 137 ] ؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح : { فلا تسألنِ ما ليس لك به علم } [ هود : 46 ] فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال سبحانه: {وكم أهلكنا} بالعذاب في الدنيا،
{من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده}...
{خبيرا بصيرا}، يقول الله عز وجل: فلا أحد أخبر بذنوب العباد من الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذّبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش، وتهديدهم لهم بالعقاب، وإعلام منه لهم، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام أنه محلّ بهم سخطه، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله، وتكذيب رسله سبيلهم. يقول الله تعالى ذكره: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جلّ ثناؤه، فيعذّب قوما بما لا يعذّب به آخرين، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين يقول جلّ ثناؤه: فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم، فقد بعثنا إليكم رسولاً ينبهكم على حججنا عليكم، ويوقظكم من غفلتكم، ولم نكن لنعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولاً منبها لهم على حجج الله، وأنتم على فسوقكم مقيمون، "وكفى بربك "يا محمد بذنوب عباده "خبيرا" يقول: وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوب خلقه عالما، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء، ولا أفعال غيرهم من خلقه، هو بجميع ذلك عالم خابر بصير، يقول: يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى بأنه أهلك من القرون من بعد نوح، أمما كثيرة، لأن "كم "يفيد التكثير...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في الآية تسليةٌ للمظلومين إذا استبطأوا هلاكَ الظالمين، وقِصَرِ أيديهم عنهم. فإذا فَكَّروا فيما مضى من الأُمم أمثالِهم وكيف بَنَوْا مَشِيداً، وأَمَّلُوا بعيداً.. فبادوا جميعاً، يعلمون أَنَّ الآخرين -عن قريب- سينخرطون في سلكهم، ويُمْتَحَنُون بمثل شأنهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... نبه بقوله {وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، وأنه عالم بها ومعاقب عليها.
ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطابا لغيره وردعا وزجرا للكل فقال: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم. ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة. وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{من بعد نوح} ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه، وقومه أول من حلت بهم العقوبة العظمى وهي الاستئصال بالطوفان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أممًا من المكذبين للرسل من بعد نوح... ومعناه: أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولقد أهلكنا قوم نوح على هذا السنن، وكانوا أهل الأرض -كما مضت الإشارة إليه ووقع التنبيه عليه، وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا من التوحيد لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم... ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد نوح} الذي أنتم ذرية من أنجيناه بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً، وبه صرح كثير من المفسرين في تفسير {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213]...
ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال: كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره؟ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة، تلطفاً بهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في جملة حالية: {وكفى بربك} أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال {بذنوب عباده} أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات {خبيراً} من القدم، فهو يعلم السر وأخفى، وأما أنتم فلستم هناك، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين {بصيراً} بها، إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها، وأما أنتم فكم من شخص كنتم ترونه مجتهداً في العبادة، فإذا خلا بارز ربه بالعظائم...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{الْقُرُونِ}: الأمم، سمى القرن قرنا لاقترانهم في زمان واحد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح، قرنا بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفيته في الآية السابقة، فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود. وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدماً بإرسال الرسول إلى أهل القرية، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} [هود: 27] وقال لهم نوح عليه السلام {ولا أقول للذين تزدري أعيُنكم لن يؤتيهم الله خيراً} [هود: 31].
فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهاراً لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب.
و (كم) في الأصل استفهام عن العدد، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مُبهم النوع، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظراً لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام. و {من القرون} تمييز للإبهام الذي اقتضته (كم).
والقرون جمع قرن، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا. وفي الحديث « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»، أراد أهل قرني، أي أهل القرن الذي أنا فيه. وقال الله تعالى: {وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 38].
وتخصيص {من بعد نوح} إيجاز، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم، وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول، واعتبر القَصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم.
ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول.
وجملة {وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً} إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص، لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب، فلا جرم خُتم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم. وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها، ولذلك جاء بفعل {كفى} وبوصفي {خبيراً بصيراً} المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم.
وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح. وفي الحديث: « ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
وفي ذكر فعل (كفى) إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافيه وحسبه، قال: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137]؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح: {فلا تسألنِ ما ليس لك به علم} [هود: 46] فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم.
وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والقرون جمع قرن، وهو الجيل من الناس، والمعنى كثيرا أهلكنا من أجيال التي بعد نوح في أمم الأنبياء الذين أترفوا وفسقوا وعاندوا الأنبياء وكفروا بهم وبأمر ربهم، وذكرت الأجيال من بعد نوح؛ لأن نوحا الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام... والباء في قوله تعالى: {بذنوب} متعلقة بقوله: {خبيرا بصيرا} وقدمت هي ومجرورها على خبيرا بصيرا، لكمال العناية، وللإشارة إلى أن العلم بالذنوب كان دقيقا على خبير بصيرا، لكمال العناية، وللإشارة إلى أن العلم بالذنوب كان دقيقا مبصرا، وذلك لبيان أنه لا ظلم، {...وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلون (33)} [النحل]. والخبرة: العلم الدقيق الذي لا يغيب، وهو علم واضح بين عنده، كالعلم بالأشياء المبصرة عند الناس، ولله المثل الأعلى في السموات والأرض...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«قرون» جمع «قرن» وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد. أمّا لماذا أكدت الآية على القرون مِن بعد نوح (عليه السلام) فقد يكون ذلك بسبب أنَّ الحياة قبل نوح (عليه السلام) كانت حياة بسيطة، والاختلافات التي تقسِّم المجتمعات إلى مُترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإِلهي لم يشملهم بكثرة. أمّا عن سبب ذكر كلمتي «خبير» و«بصير» معاً، فإنّ ذلك يعود إلى المعنى المراد، إِذ «الخبير» تعني العلم والإِحاطة بالنية والعقيدة؛ أمّا «بصير» فدلالة على رؤية الأعمال. لذلك فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحداً، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.