نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا} (17)

ولما قرر أن هذا شأنه إذا أراد أن يهلك ، أخبر أنه فعل ذلك بمن لا يحصيهم العد من القرون ، ولا يحيط بهم الحد من الأمم ، لأن الاعتبار بالمشاهد أوقع في القلب وأهول عند النفس ، فكأنه قال : كم فعلنا ذلك بالقرى ولم نستعجل في إهلاك قرية منهم ولا أخذناهم من غير إنذار ، بل أرسلنا فيهم وأملينا لهم إلى أن كان ما علمناه في الأزل ، وجاء الوقت الذي قدرناه ، وبلغوا في الذنوب ما يستحقون به الأخذ ، ولقد أهلكنا قوم نوح على هذا السنن ، وكانوا أهل الأرض - كما مضت الإشارة إليه ووقع التنبيه عليه ، وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا من التوحيد لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم ، وعطف على هذا المقدر قوله تعالى : { وكم أهلكنا } أي بما لنا من العظمة ، وبين مدلول " كم " بقوله تعالى : { من القرون } على هذا السنن .

ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده ، أدخل الجار فقال تعالى : { من بعد نوح } الذي أنتم ذرية من أنجيناه بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة ، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب ، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً ، وبه صرح كثير من المفسرين في تفسير

{ كان الناس أمة واحدة }[ البقرة : 213 ] .

ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال : كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره ؟ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة ، تلطفاً بهذا النبي الكريم ، عليه أفضل الصلاة والتسليم ، في جملة حالية : { وكفى بربك } أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال { بذنوب عباده } أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات { خبيراً } من القدم ، فهو يعلم السر وأخفى ، وأما أنتم فلستم هناك ، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين { بصيراً * } بها ، إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها ، وأما أنتم فكم من شخص كنتم ترونه مجتهداً في العبادة ، فإذا خلا بارز ربه بالعظائم .