قوله تعالى :{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } قال الكلبي ، ومقاتل : استكباراً عن الإيمان ، وقال عطاء : علواً واستطالة على الناس وتهاوناً بهم . وقال الحسن : لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانها . وعن علي رضي الله عنه : أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدرة ، { ولا فساداً } قال الكلبي : هو الدعاء إلى عبادة غير الله . وقال عكرمة : أخذ أموال الناس بغير حق . وقال ابن جريج ومقاتل : العمل بالمعاصي . { والعاقبة للمتقين } أي : العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه . قال قتادة : الجنة للمتقين .
{ 83 } { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
لما ذكر تعالى ، قارون وما أوتيه من الدنيا ، وما صار إليه عاقبة أمره ، وأن أهل العلم قالوا : { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } رغب تعالى في الدار الآخرة ، وأخبر بالسبب الموصل إليها فقال : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ } التي أخبر اللّه بها في كتبه وأخبرت [ بها ] رسله ، التي [ قد ] جمعت كل نعيم ، واندفع عنها كل مكدر ومنغص ، { نَجْعَلُهَا } دارا وقرارا { لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } أي : ليس لهم إرادة ، فكيف العمل للعلو في الأرض على عباد اللّه ، والتكبر عليهم وعلى الحق { وَلَا فَسَادًا } وهذا شامل لجميع المعاصي ، فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض والإفساد ، لزم من ذلك ، أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه ، وقصدهم الدار الآخرة ، وحالهم التواضع لعباد اللّه ، والانقياد للحق والعمل الصالح .
وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة ، ولهذا قال : { وَالْعَاقِبَةُ } أي حالة الفلاح والنجاح ، التي تستقر وتستمر ، لمن اتقى اللّه تعالى ، وغيرهم -وإن حصل لها بعض الظهور والراحة- فإنه لا يطول وقته ، ويزول عن قريب . وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة ، أن الذين يريدون العلو في الأرض ، أو الفساد ، ليس لهم في الدار الآخرة ، نصيب ، ولا لهم منها نصيب{[616]} .
ثم ختم - سبحانه - قصة قارون ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً } .
واسم الإشارة { تِلْكَ } مبتدأ ، والدار الآخرة صفة له ، ونجعلها . . . خبره ، وجاءت الإشارة بهذه الصيغة المفيدة للبعد ، للإشعار بعظم هذه الدار وعلو شأنها .
أى : تلك الدار الآخرة وما فيها من جنات ونعيم ، نجعلها خالصة لعبادنا الذين لا يريدون بأقوالهم ولا بأفعالهم ظ { عُلُوّاً فِي الأرض } أى : تطاولا وتعاليا فيها { وَلاَ فَسَاداً } أى : ظلما أو بغيا أو عدوانا على أحد .
{ والعاقبة } الطيبة الحسنة ، إنما هى { لِلْمُتَّقِينَ } الذين صانوا أنفسهم عن كل سوء وقبيح .
ثم يأخذ في التعقيب في أنسب أوان :
( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . والعاقبة للمتقين ) . .
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة ( نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ؛ ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها . إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله ، ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .
( والعاقبة للمتقين )الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه .
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين ، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ، أي : ترفعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبرًا بهم ، ولا فسادًا فيهم . كما قال عكرمة : العلو : التجبر .
وقال سعيد بن جبير : العلو : البغي .
وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن منصور ، عن مسلم{[22447]} البطين : العلو في الأرض : التكبر بغير حق . والفساد : أخذ المال بغير حق .
وقال ابن جُرَيْج : { لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ } تعظمًا وتجبرًا{[22448]} ، { وَلا فَسَادًا } : عملا بالمعاصي .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أشعث السمان{[22449]} ، عن أبى سلام الأعرج ، عن علي قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ، فيدخل{[22450]} في قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
وهذا محمول على ما إذا أراد [ بذلك ]{[22451]} الفخر [ والتطاول ]{[22452]} على غيره ؛ فإن ذلك مذموم ، كما ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال ]{[22453]} إنه أوحي إليّ أن تواضَعُوا ، حتى لا يفخَرَ أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد " {[22454]} ، وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمّل فهذا لا بأس به ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أحب أن يكون ردائي حسنًا ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذلك ؟ فقال : " لا ، إن الله جميل يحبّ الجمال " .
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : تلك الدار الاَخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحقّ في الأرض وتجبرا عنه ولا فسادا . يقول : ولا ظلم الناس بغير حقّ ، وعملاً بمعاصي الله فيها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن زياد بن أبي زياد ، قال : سمعت عكرِمة يقول لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْض وَلا فَسادا قال : العلوّ : التجّبر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين تِلكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُها لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ وَلا فَسادا قال : العلوّ : التكبر في الحقّ ، والفساد : الأخذ بغير الحقّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ قال : التكبر في الأرض بغير الحقّ وَلا فَسادا أخذ المال بغير حقّ .
قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبَير لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ قال : البغي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ قال : تعظّما وتجبرا ، ولا فسادا : عملاً بالمعاصي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أشعث السمان ، عن أبي سلمان الأعرج ، عن عليّ رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ، فيدخل في قول تِلكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُها لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ وَلا فَسادا ، والعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ .
وقوله : وَالعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ يقول تعالى ذكره : والجنة للمتقين ، وهم الذين اتقوا معاصي الله ، وأدّوا فرائضه . وبنحو الذي قلنا في معنى العاقبة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة والعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ أي الجنة للمتقين .
هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يراد به إخبار جميع العالم وحضهم على السعي بحسب ما تضمنته الآية ، وهذا الحض يتضمن الإنحاء على حال قارون ونظرائه ، والمعنى أن الآخرة ليست في شيء من أمر قارون إنما هي لمن صفته كذا وكذا ، و «العلو » المذموم هو بالظلم والانتحاء والتجبر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «وذلك أن تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك »{[9194]} ، و «الفساد » يعم وجوه الشر ، ومما قال العلماء هو أخذ المال بغير حق { والعاقبة للمتقين } ، خير منفصل جزم معناه إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة ولا بد .