{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي : حتى إذا وردوا على النار ، وأرادوا الإنكار ، أو أنكروا ما عملوه من المعاصي ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ } عموم بعد خصوص . [ { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ] أي : شهد عليهم كل عضو من أعضائهم ، فكل عضو يقول : أنا فعلت كذا وكذا ، يوم كذا وكذا . وخص هذه الأعضاء الثلاثة ، لأن أكثر الذنوب ، إنما تقع بها ، أو بسببها .
ثم بين - سبحانه - أحوالهم عندما يعرضون على النار فقال : { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
والمراد بشهادة هذه الأعضاء عليهم : أنها تنطق - بإذن الله - تعالى - وتخبر بام اجترحوه من سيئات ، وبما فعلو من قبائح .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه " فإن قلت " ما " فى قوله { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا } ما هى ؟
قلت : مزيدة للتأكيد ، ومعنى التأكيد فيها : أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها . . .
فإن قلت : كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق ؟
قلت : الله - عز وجل - ينطقها . . . بأن يخلق فيها كلاما . .
وشهادة الجلود بالملامسة للحرام ، وما أشبه ذلك مما يفضى إليها من المحرمات . وقيل : المراد بالجلود الجوارح - وقيل : هو كناية عن الفروج . .
وقوله : { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي : وقفوا عليها ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } {[25658]} أي : بأعمالهم مما قدموه وأخروه ، لا يُكْتَم منه حرف .
وقوله : حتى إذَا ما جاؤها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبْصَارُهُمْ يقول : حتى إذا ما جاؤوا النار شهد عليهم سمعهم بما كانوا يصغون به في الدنيا إليه ، ويستمعون له ، وأبصارهم بما كانوا يبصرون به وينظرون إليه في الدنيا وَجُلُودُوهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .
وقد قيل : عُني بالجلود في هذا الموضع : الفروج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن الحكم الثقفي ، رجل من آل أبي عقيل رفع الحديث ، وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا إنما عُني فروجهم ، ولكن كني عنها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حرملة ، أنه سمع عبيد الله بن أبي جعفر ، يقول حتى إذَا ما جاؤها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ قال : جلودهم : الفروج .
وهذا القول الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه في معنى الجلود ، وإن كان معنى يحتمله التأويل ، فليس بالأغلب على معنى الجلود ولا بالأشهر ، وغير جائز نقل معنى ذلك المعروف على الشيء الأقرب إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها .
و : { حتى } غاية لهذا الحشر المذكور ، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة ، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم ، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار ، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم ، فروي عن النبي عليه السلام «أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه الأيسر ثم تنطق الجوارح ، » فيقول الكافر : تباً لك أيها الأعضاء ، فعنك كنت أدافع{[10059]} . وفي حديث آخر : «يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فيتكلم الفخذ والكف »{[10060]} .