فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (20)

{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي النار التي حشروا إليها وصاروا بحضرتها أو موقف الحساب و { ما } مزيدة للتوكيد { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا من المعاصي ، وفي كيفية هذه الشهادة ثلاثة أقوال ، أولها أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه ، ثانيها أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني ، ثالثها أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان ، وتلك الأمارات تسمى شهادات ، كما يقال : العالم يشهد بتغيرات أحواله على حدوثه .

وقال الكرخي : ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد . وليس نطقها بأغرب من نطق اللسان عقلا ، وإيضاحه أن البينة ليست شرطا للحياة والعلم والقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء .

قال مقاتل تنطق جوارحهم بما كتمت ألسنهم من عملهم بالشرك . والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين . وقيل : المراد بها الجوارح مطلقا ، فالعطف من قبيل عطف العام على الخاص . وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء : أراد بالجلود الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى : { لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } أراد النكاح ، وقال تعالى : { أو جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } والمراد قضاء الحاجة ، وفي الحديث : ( أول ما يتكلم من الآدمي فخده وكفه ) ، وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيدا شديدا في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ والأول أولى .

ووجه تخصيص الثلاث بالشهادة دون غيرها مع أن الحواس خمسة ، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وآلة اللمس هي الجلد ، ما ذكره الرازي أن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يأتي بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في حس اللمس انتهى .