السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (20)

ولما بين تعالى إهانتهم بالوزع بين غايتها بقوله تعالى : { حتى إذا ما جاؤوها } أي : النار التي كانوا بها يكذبون ، فما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، كما قال تعالى : { شهد عليهم } وبين الشاهد وعدده بقوله تعالى : { سمعهم } وأفرد السمع لعدم تفاوت الناس فيه { وأبصارهم } وجمعها لعظم تفاوت الناس فيها { وجلودهم بما كانوا يعملون } أي : يجددون عمله مستمرين عليه .

تنبيه : في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال ؛ أولها : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه ، ثانيها : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني ، ثالثها : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه .

فإن قيل : ما السبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر مع أن الحواس خمسة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس ؟ أجيب : بأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى يصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في جنس اللمس ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى : { لا تواعدوهن سراً } ( البقرة : 235 ) وأراد النكاح وقال تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ( النساء : 43 ) والمراد قضاء الحاجة وقال صلى الله عليه وسلم : «أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه » وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ ، وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الأنفس من عملهم وعن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : «هل تدرون مم أضحك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى قال فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهداً مني قال فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الكاتبين عليك شهوداً قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعداً لَكُنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل » .