ثم قال : { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وعلى هذا التقدير فكلمة { ما } صلة ، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله { أثم إذا ما وقع آمنتم به } أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به .
المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتني أن لا تظلمني ، فيقول الله تعالى فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهدا إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه بالأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه ( والثاني ) أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة ( والثالث ) أن يظهر تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان ، وتلك الأمارات تسمى شهادات ، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه ، واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما ( القول الأول ) فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لسانا يمتنع أن يكون محلا للعلم والعقل ، فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لسانا وجلدا ، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجلود ، فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة ، وأما ( القول الثاني ) وهو أن يقال إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء ، وهذا أيضا باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام ، لا ما كان موصوفا بالكلام ، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة ، فهاهنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ، ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء ، وظاهر القرآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال : { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } .
وأيضا أنهم قالوا لتلك الأعضاء { لم شهدتم علينا } فقالت الأعضاء { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وكل هذه الآيات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء ، وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى ، فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين ، وأما ( القول الثالث ) وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه ، فهذا منتهى الكلام في هذا البحث ، أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم ، لأن عندنا البنية ليست شرطا للحياة ولا للعلم ولا للقدرة ، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطا للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سببا وفائدة ، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر هاهنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم ، لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام ، فكان هذا داخلا فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان ، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، قال وهذا من باب الكنايات كما قال : { ولكن لا تواعدوهن سرا } وأراد النكاح وقال : { أو جاء منكم من الغائط } والمراد قضاء الحاجة .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه » وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيدا شديدا في الإتيان بالزنا ، لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.