مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (20)

ثم قال : { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وعلى هذا التقدير فكلمة { ما } صلة ، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله { أثم إذا ما وقع آمنتم به } أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به .

المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتني أن لا تظلمني ، فيقول الله تعالى فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهدا إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه بالأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه ( والثاني ) أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة ( والثالث ) أن يظهر تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان ، وتلك الأمارات تسمى شهادات ، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه ، واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما ( القول الأول ) فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لسانا يمتنع أن يكون محلا للعلم والعقل ، فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لسانا وجلدا ، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجلود ، فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة ، وأما ( القول الثاني ) وهو أن يقال إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء ، وهذا أيضا باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام ، لا ما كان موصوفا بالكلام ، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة ، فهاهنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ، ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء ، وظاهر القرآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال : { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } .

وأيضا أنهم قالوا لتلك الأعضاء { لم شهدتم علينا } فقالت الأعضاء { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وكل هذه الآيات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء ، وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى ، فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين ، وأما ( القول الثالث ) وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه ، فهذا منتهى الكلام في هذا البحث ، أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم ، لأن عندنا البنية ليست شرطا للحياة ولا للعلم ولا للقدرة ، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطا للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سببا وفائدة ، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر هاهنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم ، لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام ، فكان هذا داخلا فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان ، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، قال وهذا من باب الكنايات كما قال : { ولكن لا تواعدوهن سرا } وأراد النكاح وقال : { أو جاء منكم من الغائط } والمراد قضاء الحاجة .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه » وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيدا شديدا في الإتيان بالزنا ، لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ .