{ إن لك في النهار سبحاً طويلاً } أي : تصرفاً وتقلباً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك ، وأصل السبح : سرعة الذهاب ، ومنه السباحة في الماء ، وقيل : سبحاً طويلاً : أي : فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك فصل من الليل . وقرأ يحيى بن يعمر سبخاً بالخاء المعجمة أي : استراحة وتخفيفاً للبدن ، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة ، وقد دعت على سارق : " لا تسبخي عنه بدعائك عليه " ، أي : لا تخففي .
وقوله - سبحانه - { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه - سبحانه - .
والسبح : مصدر سبح ، وأصله الذهاب فى الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع ، الذى يشبه حركة السابع فى الماء .
أى : إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة ، لأن لك فى النهار - أيها الرسول الكريم - تقلبا وتصرفا فى مهماتك ، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا ، أما فى الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم .
فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى الله عليه وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل - إلا قليلا منه - للعبادة ، حيث لم يجمع - سبحانه - عليه الأمر بالتهجد فى الليل والنهار ، وإنما يسر عليه الأمر ، فجعله بالليل فحسب ، أما النهار فهو لمطالب الحياة : ولتبليغ رسالته - سبحانه - إلى الناس .
قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن لك يا محمد في النهار فراغا طويلاً تتسع به ، وتتقلّب فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سَبْحا طَوِيلاً فراغا طويلاً ، يعني النوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً قال : متاعا طويلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله سَبْحا طَوِيلاً قال : فراغا طويلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً قال : لحوائجك ، فافرُغ لدينك الليل ، قالوا : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله منّ على العباد فخفّفها ووضعها ، وقرأ : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَليلاً . . . إلى آخر الاَية ، ثم قال : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللّيْلِ حتى بلغ قوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ الليل نصفه أو ثلثه ، ثم جاء أمر أوسع وأفسح ، وضع الفريضة عنه وعن أمّته ، فقال : وَمِنَ اللّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَة لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً فراغا طويلاً . وكان يحيى بن يعمر يقرأ ذلك بالخاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن غالب الليثي ، عن يحيى بن يعمر «من جذيلة قيس » أنه كان يقرأ : «سَبْخا طَوِيلاً » قال : وهو النوم .
قال أبو جعفر : والتسبيخ : توسيع القطن والصوف وتنفيشه ، يقال للمرأة : سبّخي قطنك : أي نفشيه ووسعيه ومنه قول الأخطل :
فأرْسَلُوهُنّ يُذْرِينَ التّرَابَ كمَا *** يُذْرِي سَبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتارِ
وإنما عني بقوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً : إن لك في النهار سعة لقضاء حوائجك وقومك . والسبح والسبخ قريبا المعنى في هذا الموضع .
فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها ، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور ، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل .
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة { إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً } [ المزمل : 6 ] وذلك دائر : بين أن يكون تعليلاً لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه ، فيفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى : قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً ، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك . وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين ، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل ، وبيْن أن يكون تلطفاً واعتذاراً عن تكليفه بقيام الليل ، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه فيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه .
ويجوز أن يكون تعليلاً لما تضمنه { أو انقص منه قليلاً } [ المزمل : 3 ] ، أي إن نقصتَ من نصف الليل شيئاً لا يَفُتْكَ ثواب عمله ، فإن لك في النهار متسعاً للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى : { وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكوراً } [ الفرقان : 62 ] .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى } [ العلق : 9 ، 10 ] . وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ . ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة { سبحاً طويلاً } وهي من بليغ الإِيجاز .
والسبح : أصله العوم ، أي السلوك بالجسم في ماء كثير ، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض .
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرىء القيس الخيل بالسابحات في قوله في مَدح فرسه :
مُسحَ إذا ما السابحات على الوَنى *** أثْرْنَ الغُبار في الكَديد المركَّل
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ ، أي لينام في النهار ، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال : فراغاً طويلاً لحوائجك فافرغ لدينك بالليل .
والطويل : وصف من الطول ، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقاديرِ أكثرِ أمثاله . فالطول من صفات الذوات ، وشاع وصف الزمان به يقال : ليل طويل وفي الحديث « الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه »
وأما وصف السَّبح ب ( طويل ) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه . وبعدَ هذا ففي قوله { طويلاً } ترشيح لاستعارة السَّبح للعمل في النهار .