قوله تعالى : { وهو الله في السموات وفي الأرض } ، يعني : وهو إله السموات والأرض ، كقوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } ، وقيل : هو المعبود في السموات ، وقال محمد بن جرير : معناه " وهو الله في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض " ، وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره : وهو الله .
{ 3 } { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }
أي : وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض ، فأهل السماء والأرض ، متعبدون لربهم ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزه وجلاله ، الملائكة المقربون ، والأنبياء والمرسلون ، والصديقون ، والشهداء والصالحون .
وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه ، وتدنيكم من رحمته ، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته .
وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة فى الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، جاءت الآية الثالثة لتصفه - سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق فى هذا الكون فقال - تعالى - : { وهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } .
أى : أنه - سبحانه - هو المعبود بحق فى السموات والأرض ، العليم بكل شىء فى هذا الوجود ، الخبير بكل ما يكسبه الإنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه .
والضمير " هو " الذى صدرت به الآية يعود إلى الله - تعالى - الذى نعت ذاته فى الآيتين السابقتين بأنه هو صاحب الحمد المطلق ، وخالق السموات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، ومنشىء الإنسان من طين ، وأنه لذلك يكون مختصاً بالعبادة والخضوع .
وقوله - تعالى - : { وَهُوَ الله } جملة من متبدأ وخبر ، معطوفة على ما قبلها ، سيقت لبيان شموال ألوهيته لجميع المخلوقات .
قال أبو السعود : وقوله { فِي السماوات وَفِي الأرض } متعلق بالمعنى الوصفى الذى ينبىء عنه الاسم الجليل إما باعتبار اصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما . وإما باعتبار أنه اسم اشتهر به الذات من صفات الكمال ، فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة ، فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل : هو المالك أو المتصرف المدبر فيهما ، كما فى قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } وجملة { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذى استوى فى علمه السر والعلن هو الله وحده . ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم ، أو خبراً ثانيا .
واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد ؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء :
( وهو الله في السماوات وفي الأرض ، يعلم سركم وجهركم ، ويعلم ما تكسبون ) . .
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض . هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء . وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما ، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما ، وائتمار بأمره وحده . وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان . فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض ؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض ؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنسانا رزقه إياه الله ؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له - رضي أم كره - يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله ، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه : فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنينا وجوده ! وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة ! وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه ؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له . وهو يحس ويتألم ، ويجوع ويعطش ، ويأكل ويشرب . . وبالجملة يعيش . . وفق ناموس الله ، على غير إرادة منه ولا اختيار . . شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء .
والله - سبحانه - يعلم سره وجهره . ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره .
والأليق به أن يتبع - إذن - ناموس الله في حياته الاختيارية - فيما يتخذه من تصورات اعتقادية ، وقيم اعتبارية ، وأوضاع حيوية - لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله ؛ مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله . ولكي لا يناقض بعضه بعضا ، ولا يصادم بعضه بعضا ؛ ولا يتمزق مزقا بين ناموسين وشرعين : أحدهما إلهي والأخر بشري وما هما بسواء . .
إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة ، إنما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل " الخلق " ودليل " الحياة " ممثلين في الآفاق وفي الأنفس . . ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطابا جدليا ، لاهوتيا أو فلسفيا ! ولكن خطابا موحيا موقظا للفطرة ، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء ؛ وحركة التدبير والهيمنة ؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل ؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله ؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه .
ووجود السماوات والأرض ، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح ؛ ونشأة الحياة - وحياة الإنسان في قمتها - وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه . . كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق ، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله . . والوحدانية هي القضية التي تستهدف السورة كلها - بل القرآن كله - تقريرها . وليست هي قضية " وجود " الله . فلقد كانت المشكلة دائما في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق ، بصفاته الحقة ؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله !
ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة ؛ بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه ، وبأنه الخالق الرازق ، المالك ، المحيي المميت . . إلى كثير من الصفات - كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم ، وفي حكاية أقوالهم - ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضىاعترافهم ذاك : من تحكيم الله - سبحانه - في أمرهم كله ؛ ونفي الشركاء له في تدبير شؤون حياتهم ؛ واتخاذ شريعته وحدها قانونا ، ورفض مبدأ تحكيم غير الله في أي شأن من شؤون الحياة .
هذا هو الذي وصمهم بالشرك وبالكفر ؛ مع إقرارهم بوجود الله سبحانه ، ووصفه بتلك الصفات ، التي من مقتضاها أن يتفرد سبحانه بالحكم في شأنهم كله ، بما أنه الخالق الرازق المالك ، كما كانوا يعترفون . . ومواجهتهم في مطلع هذه السورة بصفات الله هذه من الخلق للكون وللإنسان ، ومن تدبيره لأمر الكون وأمر الإنسان ؛ ومن علمه وإحاطته بسرهم وجهرهم وعملهم وكسبهم . . إنما هو المقدمة التي يرتب عليها ضرورة إفراده سبحانه بالحاكمية والتشريع ، كما أوضحنا في التعريف المجمل بخط السورة ومنهجها .
ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية ، ولتقرير الحاكمية ، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله . .
والحقيقة أن هناك شكا كثيرا فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم ! فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة ؛ ثم استغلها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية ، كي لا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم - كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون - ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم ، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقية الذي توفره العقيدة !
واليهود - مهما بلغ من كيدهم ومكرهم - لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية ، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله - وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة ؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها ، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس - ولكن بعض النفوس تفسد فطرتها ، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . وهذه النفوس وحدها هي التي يمكن أن يفلح معها كيد اليهود الذي يستهدف نفي وجود الله فيها . ولكن هذه النفوس المعطلة الفطرة ستظل قليلة وشاذة في مجموع البشر في كل زمان . . والملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم لا يتجاوزون بضعة ملايين في روسيا والصين من بين مئات الملايين الذين يحكمهم الملحدون بالحديد والنار ؛ على الرغم من الجهد الناصب خلال أربعين عاما في نزع الإيمان بكل وسائل التعليم والإعلام !
إنما يفلح اليهود في حقل آخر . وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر . وطرده من واقع الحياة . وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله ؛ مع أن هناك أربابا أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله ! ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلا ، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله .
وهم يستهدفون الإسلام - قبل كل دين آخر - لأنهم يعرفون من تاريخهم كله ، أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة . وأنهم غالبوا أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم ؛ مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله ! فهذا التخدير بوجود الدين - وهو غير موجود في حياة الناس - ضروري لتنجح المؤامرة . . أو يأذن الله فيصحو الناس !
وأحسب - والله أعلم - أن اليهود الصهيونيين ، والنصارى الصليبيين ، كليهما ، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك . . يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد - عن طريق المذاهب المادية - كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار . . ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين - فضلا على المسلمين - وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام ، أو حتى ورث الإسلام !
وأحسب - والله أعلم - أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير ؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث ، وإلى حبائل أمكر . . لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام ؛ وتتمسح في العقيدة ؛ ولا تنكر الدين جملة . . ثم هي تحت هذا الستار الخادع ، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون ، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل !
إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله ؛ وتقصي شريعة الله عن الحياة ؛ وتحل ما حرم الله ؛ وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية ؛ وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية ، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية ؛ وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين ، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع ، وجعلها فتنة للمجتمع ، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج ؛ بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف ! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه . . كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة ! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم ، وأنهم هم كذلك مسلمون ! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون ؟ أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة ، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة ؛ وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين . وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين ؛ وفي دين الله ؛ بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين !
وإمعانا في الخداع والتضليل ؛ وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي ، فإنها تثير حروبا مصطنعة - باردة أو ساخنة - وعداوات مصطنعة في شتى الصور ، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية ، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية ، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة !
تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة ، لتزيد من عمق الخدعة ؛ ولتبعد الشبهة عن العملاء ، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد ؛ من تدمير القيم والأخلاق ؛ وسحق العقائد والتصورات ؛ وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول . . وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم . . وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين ؛ في غفلة من الرقباء والعيون !
فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة ؛ ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف ؛ وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه ؛ ولوصف الكفر بأنه الإسلام ؛ والفسق والفجور والانحلال ، بأنه تطور وتقدم وتجدد . . إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة ؛ وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا ، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء ! ! !
ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية ، أو طائفية ، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ؛ ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة ، وإلى منكرات صغيرة ، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة . .
بينما الدين كله يسحق سحقا ، ويدمر من أساسه ؛ وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون ، وبينما الطاغوت - الذي أمروا أن يكفروا به - هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا !
إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة ؛ بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد ، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير ، فترة طويلة من الزمان . .
إلا أن الأمل في الله أكبر ؛ والثقة في هذا الدين أعمق ، وهم يمكرون والله خير الماكرين . وهو الذي يقول : ( وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ، إن الله عزيز ذو انتقام ) . .
أما مواجهة دليل الخلق ودليل الحياة للوثة الإلحاد ، فهي مواجهة قوية ، لا يجد الملحدون إزاءها إلا المماحلة والمغالطة والالتواء :
إن وجود هذا الكون ابتداء ، بهذا النظام الخاص ، يستلزم - بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء - أن يكون وراءه خالق مدبر . .
فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها ، إلا بتصور إله ينشى ء ويخلق ويوجد هذا الوجود .
والذين يلحدون يعمدون إلى هذه الفجوة فيريدون ملأها بالمكابرة . ويقولون : إنه لا داعي لأن نفترض أنه كان هناك عدم قبل الوجود ! . . ومن هؤلاء فيلسوف عرف بأنه فيلسوف " الروحية " المدافع عنها في وجه " المادية " . وعلى هذا الأساس ربما أشاد به بعض المخدوعين من " المسلمين " واستأنسوا بأقواله لدينهم كأنما ليؤازروا دين الله بقول عبد من العبيد . . هذا الفيلسوف هو " برجسون " . . اليهودي ! ! !
إنه يقول : إن هذا الوجود الكوني لم يسبقه عدم ! وإن فرض الوجود بعدم العدم ناشى ء من طبيعة العقل البشري الذي لا يستطيع أن يتصور إلا على هذا النحو . .
فإلى أي منطق يا ترى يستند برجسون إذن في إثبات أن الوجود الكوني لم يسبقه عدم ؟
إلى العقل ؟ لا . فإن العقل - كما يقرر - لا يمكن أن يتصور إلا وجودا بعد عدم ! إلى وحي من الله ؟ إنه لا يدعي هذا . وإن كان يقول : إن حدس المتصوفة كان دائما يجد إلها ولا بد أن نصدق هذا الحدس المطرد [ الإله الذي يتحدث عنه برجسون ليس هو الله إنما هو الحياة ! ] . . فأين المصدر الثالث الذي يعتمد عليه [ برجسون ] إذن في إثبات أن الوجود الكوني غير مسبوق بعدم ؟ لا ندري !
إنه لا بد من الالتجاء إلى تصور خالق خلق هذا الكون . . لا بد من الالتجاء إلى هذا التصور لتعليل مجرد وجود الكون . . فكيف إذا كان الحال أنه لم يوجد مجرد وجود . ولكنه وجد محكوما بنواميس لا تتخلف ، محسوبا فيها كل شيء بمقاييس ، قصارى العقول البشرية أن تدرك أطرافا منها ، بعد التدبر الطويل ؟ !
كذلك نشأة هذه الحياة . والمسافة بينها وبين المادة - أيا كان مدلول المادة ولو كان هو الإشعاع - لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبر . يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه ؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضا بعد وجودها . والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرد الحياة . . وأصله من طين . . أي من مادة هذه الأرض وجنسها ؛ ولا بد من إرادة مدبرة تمنحه الحياة ، وتمنحه خصائص الإنسان عن قصد واختيار .
وكل المحاولات التي بذلها الملحدون لتعليل نشأة الحياة باءت بالفشل - عند العقل البشري ذاته - وآخر ما قرأته في هذا الباب محاولة [ ديورانت ] المتفلسف الأمريكي للتقريب بين نوع الحركة الذي في الذرة - وهو يسميه درجة من الحياة - ونوع الحياة المعروف في الأحياء . وذلك في جهد مستميت لملء الفجوة بين المادة الهامدة والحياة النابضة . بقصد الاستغناء عن الإله الذي ينشى ء الحياة في الموات !
ولكن هذه المحاولة المستميتة لا تنفعه ولا تنفع الماديين في شيء . . ذلك أنه إن كانت الحياة صفة كامنة في المادة ، ولم يكن وراء هذه المادة قوة أخرى ذات إرادة ، فما الذي يجعل الحياة التي في المادة الكونية تتبدى في درجات بعضها أرقى وأعقد من بعض ؟ فتتبدى في الذرة مجرد حركة آلية غير واعية . ثم تتبدى في النبات في صورة عضوية . ثم تتبدى في الأحياء المعروفة في صورة عضوية أكثر تركيبا وتعقيدا . .
ما الذي جعل المادة - المتضمنة للحياة كما يقال - يأخذ بعضها من عنصر الحياة أكثر مما يأخذ البعض الأخر ، بلا إرادة مدبرة ؟ ما الذي جعل الحياة الكامنة في المادة ، تختلف في مدارجها المترقية ؟ !
إننا نفهم هذا التفاوت يوم نقدر أن هناك إرادة مدبرة هي التي تصنع ذلك مختارة مريدة . فأما حين تكون المادة [ الحية ولنفرض ذلك ! ] هي وحدها ، فإنه يستحيل على العقل البشري ذاته أن يفهم هذا التفاوت أو يعلله !
إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة !
وإذ كنا - في هذه الظلال - لا نخرج عن المنهج القرآني ؛ فإننا لا نمضي أكثر من هذا في مواجهة لوثة الإلحاد ببراهين الخلق والتدبير والحياة . . فالقرآن الكريم لم يجعل قضية وجود الله قضيته . لعلم الله أن الفطرة ترفض هذه اللوثه . إنما القضية هي قضية توحيد الله ؛ وتقرير سلطانه في حياة العبد ؛ وهي القضية التي تتوخاها السورة في هذه الموجة التي استعرضناها .
{ وَهُوَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إن الذي له الألوهة التي لا تنبغي لغيره المستحق عليكم إخلاص الحمد له بآلائه عندكم أيها الناس الذي يعدل به كفاركم من سواه ، هو الله الذي هو في السموات وفي الأرض ، ويَعْلَمُ سِرّكُمْ وجَهْرَكُمْ فلا يخفى عليه شيء ، يقول : فربكم الذي يستحقّ عليكم الحمد ويجب عليكم إخلاص العبادة له ، هو هذا الذي صفته ، لا من يقدر لكم على ضرّ ولا نفع ولا يعمل شيئا ولا يدفع عن نفسه سواء أريد بها .
وأما قوله : وَيَعْلَمُ ما تَكْسَبُونَ يقول : ويعلم ما تعملون وتجرحون ، فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه .
{ وهو الله } الضمير لله سبحانه وتعالى و{ الله } خبره . { في السماوات وفي الأرض } متعلق باسم { الله } والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير ، كقوله سبحانه وتعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أو بقوله : { يعلم سركم وجهركم } والجملة خبر ثان ، أو هي الخبر و{ الله } بدل ، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا ، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما ، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه . { ويعلم ما تكسبون } من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الله في السماوات} أنه واحد، {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم}، يعني سر أعمالكم وجهرها، {ويعلم ما تكسبون}، يعني ما تعملون من الخير والشر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهة التي لا تنبغي لغيره المستحق عليكم إخلاص الحمد له بآلائه عندكم أيها الناس الذي يعدل به كفاركم من سواه، هو الله الذي هو في السموات وفي الأرض، ويَعْلَمُ سِرّكُمْ وجَهْرَكُمْ فلا يخفى عليه شيء، يقول: فربكم الذي يستحقّ عليكم الحمد ويجب عليكم إخلاص العبادة له، هو هذا الذي صفته، لا من يقدر لكم على ضرّ ولا نفع ولا يعمل شيئا ولا يدفع عن نفسه سواء أريد بها.
"وَيَعْلَمُ ما تَكْسَبُونَ": ويعلم ما تعملون وتجرحون، فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الله في السماوات والأرض} هذا، والله أعلم، صلة قوله: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} فإذا كان خالقهما لم يشركه أحد في خلقهما،كان إله من في السماوات وإله من في الأرض لم يشركه أحد في ألوهيته ولا ربوبيته.
ويحتمل قوله: {وهو الله في السماوات وفي الأرض} أي إلى الله تدبير ما في السموات وما في الأرض، وحفظه إليه لأنه هو المتفرد بخلق ذلك كله، فإليه حفظ ذلك وتدبيره.
وقوله تعالى: {يعلم سركم وجهركم} اختلف فيه: قيل: {يعلم سركم} ما تضمرون في القلوب {وجهركم} ما تنطقون {ويعلم ما تكسبون} من الأفعال التي عملت الجوارح. أخبر أنه يعلم ذلك كله يحصيه ليحاسبهم على ذلك كقوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه. فعلى ذلك الأول؛ فيه إخبار أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك ليكونوا على حذر من ذلك وخوف.
وقيل: {يعلم سركم} ما خلق فيهم من الأسرار من نحو السمع والبصر وغيرهما لأن البشر لا يعرفون ماهية هذه الأشياء وكيفيتها، ولا يسرون ذلك كما يرون غيرها من الأشياء، ولا يعرفون حقائقها. أخبر أنه يعلم ذلك، وأنتم لا تعلمون.
وقوله تعالى: {وجهركم} أي الظواهر منكم {ويعلم ما تكسبون} من الأفعال والأقوال.
اعلم أنا إن قلنا: أن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار.
قلنا: المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة، وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية، وإن قلنا: المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان، وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما: أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادرا مختارا. والثاني: أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادرا ومختارا لا علة موجبة، وأثبت بهذه الآية كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، وحينئذ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد، وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وهاهنا مسائل:
{وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله} وقال {فأينما تولوا فثم وجه الله} وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة لله تعالى، فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره.
فوجب التأويل وهو من وجوه: الأول: أن قوله {وهو الله في السموات وفى الأرض} يعني وهو الله في تدبير السموات والأرض. والثاني: أن قوله {وهو الله} كلام تام، ثم ابتدأ وقال: {في السموات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم} والمعنى: الله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة، وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن. والثالث: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير: وهو الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم، ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا: وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم، وكلمة هو إنما تذكر هاهنا لإفادة الحصر، وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسما مشتقا فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه، وإذا جعلنا قولنا: الله لفظا مفيدا صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم.
المسألة الثانية: المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والمراد بالجهر أعمال الجوارح، وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي، فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، والعلة متقدمة على المعلول، والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ.
المسألة الثالثة: قوله {ويعلم ما تكسبون} فيه سؤال: وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر، وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر. فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله {ويعلم ما تكسبون} يقتضي عطف الشيء على نفسه، وأنه فاسد.
والجواب: يجب حمل قوله {ما تكسبون} على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب، والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال: هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال.
المسألة الرابعة: الآية تدل على كون الإنسان مكتسبا للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر، ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزها عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العالم بها هو خالقه، و أن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته: عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها، فلم يكن إلهاً، وكان الإله هو العالم وحده، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب، وكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح: لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، قال تعالى عاطفاً {هو الذي} دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار، لأن إنكارهم المعاد لأمرين: أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار، والثاني أنه -على تقدير تسليم الاختيار- غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات: الكليات والجزئيات، زالت جميع الشبهات: {وهو الله} أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً، وعلق بهذا المعنى قوله: {في السماوات} لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه.
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال: {وفي الأرض} أي هذه صفته دائماً على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره، ضعيف التصرف فيما وراءه، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، ومحجوج بحديث:"أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج، ومؤيد بصحيح النقل {ليس كمثله شيء} أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه، و "قد كان الله ولا شيء معه"، وحديث "ليس فوقك شيء "- رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه -والله الموفق.
ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه، ثم أقدره على ذلك؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء: {يعلم سركم).
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه، صرح به فقال: {وجهركم} ونسبة كل منها إليه على حد سواء، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بعد؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال: {ويعلم ما تكسبون} فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الله في السماوات وفي الأرض} اسم الجلالة « الله» علم لرب العالمين خالق السموات والأرض، وقد كان هذا معروفا عند مشركي العرب. قال تعالى في سورة العنكبوت: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون} [العنكبوت: 61] ومثلها في سورة الزمر: 39 وفي معنى هذا السؤال والجواب آيات كثيرة وردت في سياق إثبات التوحيد والبعث – راجع من آية 80 إلى 90 من سورة المؤمنين ومن آية 61 إلى 70 من سورة النمل. فمن هذه الآيات تعلم أن اسم الجلالة يشمل هذه الصفات أو يستلزمها، فمعنى الآية أن الله تعالى هو الله تعالى المتصف بهذه الصفات المعروف والمعترف له بها في السموات والأرض. كما تقول أن حاتما هو حاتم في طيئ وفي جميع القبائل – أي هو المعروف بالجود المعترف له به في كل قومه وفي غيرهم، وأن فلانا هو الخليفة في مملكته وفي جميع البلاد الإسلامية. وفي معنى هذا قوله تعالى في أواخر الزخرف: {وهو الذي في السماء إلاه وفي الأرض إلاه وهو الحكيم العليم} الخ الآيات.
وجعل بعضهم المعنى الاشتقاقي في الاسم الكريم إما المعبود وإما المدعو، وهذا هو معنى « الإله» وهو داخل في مفهوم الاسم الأعظم، والمعنى على هذا: كمعنى آية الزخرف أي وهو المعبود أو المدعو في السماوات والأرض. وقال الحافظ ابن كثير إنه الأصح من الأقوال. وفي الآيات وجوه أخرى: فمنها أنه المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما – ومنها أنه الذي يقال له الله فيهما لا يشرك به في هذا الاسم. وقيل إن « في السموات وفي الأرض» متعلق بما بعده وفيه إشكال نحوي وإشكال معنوي.
وزعمت الجهمية أن المعنى أن الله تعالى كائن في السموات والأرض، ومنه أخذوا قولهم أنه في كل مكان، والله أعلى وأجل مما قالوا فهو بائن من خلقه غير حال فيه كله ولا في جزء منه، وما صح من إطلاق كونه في السماء ليس معناه أنه حال في هذه الأجرام السماوية كلها أو بعضها، وإنما هو إطلاق لإثبات علوه على خلقه غير مشابه لهم في شيء، بل هو بائن منهم ليس كمثله شيء.
أما جملة {يعلم سركم وجهركم} فهي تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم، أو خبر ثان قيل أو ثالث {ويعلم ما تكسبون (3)} من الخير والشر فيجازيكم عليه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض، فأهل السماء والأرض، متعبدون لربهم، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزه وجلاله، الملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون، والصديقون، والشهداء والصالحون. وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه، وتدنيكم من رحمته، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء: (وهو الله في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون).. إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض. هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء. وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما، وائتمار بأمره وحده. وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان. فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنسانا رزقه إياه الله؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له -رضي أم كره- يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه: فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنينا وجوده! وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة! وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له. وهو يحس ويتألم، ويجوع ويعطش، ويأكل ويشرب.. وبالجملة يعيش.. وفق ناموس الله، على غير إرادة منه ولا اختيار.. شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء. والله -سبحانه- يعلم سره وجهره. ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...ولا يجوز تعليق {في السماوات وفي الأرض} بالفعل في قوله: {يعلم سرّكم} لأنّ سرّ النّاس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصّة دون السماوات، فمن قدّر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيّاً. وذكر السرّ لأنّ علم السرّ دليل عموم العلم، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال. والمراد ب {تكسبون} جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد. والخطاب لجميع السامعين؛ فدخل فيه الكافِرون، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب، لأنّه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين.
.. والله هو علم على واجب الوجود، وهو الاسم الذي اختاره الله لنفسه شاملا لكل صفات الكمال، والصفات الأخرى نحن نسميها الأسماء الحسنى: مثل القادر، السميع، والبصير، والحي، والقيوم، والقهار، كلها صفات صارت أسماء لأنها مطلقة بالنسبة لله. وهذه الصفات حين تنصرف على إطلاقها فهي لله، ومن الجائز أن تضاف في نسبتها الحادثة إلى غير الله. أما اسم (الله) فلا يطلق إلا على الحق سبحانه وتعالى: ويتحدى الله الكافرين به أن يسمي أحدهم أي شيء غيره ب (الله). {هل تعلم له سميا} (من الآية 65 سورة مريم) وسمع الكافرون ذلك ولم يجرؤ أحدهم أن يسمي أي شيء باسم (الله). وهو لون من التحدي باق إلى قيام الساعة ولا يجرؤ أحد أن يقول عكسه أو أن يقبله فيسمي شيئا أو كائنا غير الله ب (الله).
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية الله، وترد على الذين يقولون بوجود إِله لكل مجموعة من الكائنات، أو لكل ظاهرة من الظواهر، فيقولون: إِله المطر، وإِله الحرب، وإِله السلم، وإِله السماء، وما إِلى ذلك، تقول الآية: (وهو الله في السموات وفي الأرض) أي كما أنّه خالق كل شيء فهو مدبر كل شيء أيضاً، وبذلك ترد الآية على مشركي الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أنّ الخالق هو «الله» لكنّهم كانوا يؤمنون أنّ تدبير الأُمور بيد الأصنام... من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شيء والمدبر لكل الأُمور والحاضر في كل مكان عارفاً بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية: إِنّ ربّاً كهذا (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون). قد يقال بأنّ (السرّ) و (الجهر) يشملان أعمال الإِنسان ونواياه، وعلى ذلك فلا حاجة لذكر (ويعلم ما تكسبون). ولكن ينبغي الالتفات إِلى أنّ «الكسب» هو نتائج العمل والحالات النفسية الناشئة عن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، أي أنّ الله يعلم أعمالكم ونواياكم، كما يعلم الآثار التي تخلفها تلك الأعمال والنوايا في نفوسكم، وعلى كل حال، فانّ ذكر العبارة هذه يفيد التوكيد بشأن أعمال الإِنسان.