قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب } . حظ .
قوله تعالى : { مما كسبوا } . من الخير والدعاء بالثواب والجزاء .
قوله تعالى : { والله سريع الحساب } . يعني إذا حاسب عبده فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا إلى روية ولا فكر . قال الحسن : أسرع من لمح البصر وقيل : معناه إتيان القيامة قريب لأن ما هوآت لا محالة فهو قريب ، قال الله تعالى : ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) .
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ، ولكن مقاصدهم تختلف ، فمنهم : { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي : يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته ، وليس له في الآخرة من نصيب ، لرغبته عنها ، وقصر همته على الدنيا ، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء ، لهم نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم ، وهماتهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين العدل والفضل ، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه ، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع ، مسلما أو كافرا ، أو فاسقا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه ، دليلا على محبته له وقربه منه ، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين .
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، وراحة ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ونحو ذلك ، من المطالب المحبوبة والمباحة .
وحسنة الآخرة ، هي السلامة من العقوبات ، في القبر ، والموقف ، والنار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فصار هذا الدعاء ، أجمع دعاء وأكمله ، وأولاه بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، والحث عليه .
ثم بين - سبحانه - جزاء هذا الفريق الثاني فقال : { أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب } .
فاسم الإِشارة يعود إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة وكانت الإِشارة للبعيد لبيان علو منزلتهم ، وسمو درجاتهم ولم يعطف على ما قبله لأنه كالنتيجة له .
وقيل : إن الإِشارة تعود إلى الفريقين . أي : لكل من الفريقين نصيب من عمله على قدر ما نواه . ويضعفه أن الله - تعالى - قد ذكر قبل ذلك عاقبة الفريق الأول بقوله : { وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } .
والمعنى : أولئك الذين جمعوا في دعائهم بين طلب حسنتي الدنيا والآخرة لهم نصيب جزيل ، وحظ عظيم من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة ، أو من أجل ما كسبوا من الفعال الطيبة .
فحرف الجر " من " يصح أن يكون للابتداء أو للتبعيض .
وفي هذه الجملة الكريمة وعد من الله لعباده أنهم متى تضرعوا إليه بقلب سليم ، أجاب لهم دعاءهم ، وأعطاهم سؤالهم .
قال القرطبي : وقوله : { والله سَرِيعُ الحساب } من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - فهو سريع . و { الحساب } مصدر كالمحاسبة ، وقد يسمى المحسوب حساباً . والحساب : العد .
ويقال : حسب يحسب حساباً وحسابة وحسباناً أي : عد .
والمعنى في الآية : أن الله - تعالى - سريع الحساب لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب ، ولهذا قال وقوله الحق ( وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ) . فالله - تعالى - عالم بما للعباد وما عليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل .
وقيل : سريع المجازاة للعباد بأعمالهم ، وقيل لعلي بن أبي طالب : كيف يحاسب الله العباد في يوم ؟ قال : كما يرزقهم في يوم . ومعنى الحساب : تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم بما قد نسوه .
وقيل : معنى الآية سريع بمجئ يوم الحساب ، فالمقصود بالآية الإِنذار ليوم : القيامة .
وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطىء عليهم . فالله سريع الحساب .
إن هذا التعليم الإلهي يحدد : لمن يكون الاتجاه . ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره ، وترك لله الخيرة ، ورضي بما يختاره له الله ، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة . ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب . والأول رابح حتى بالحساب الظاهر . وهو في ميزان الله أربح وأرجح . وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال ، وفي استقامة على التصور الهاديء المتزن الذي ينشئه الإسلام .
إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا . فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا . ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها ؛ وألا يضيقوا من آفاقهم ، فيجعلوا من الدنيا سورا يحصرهم فيها . . إنه يريد أن يطلق( الإنسان ) من أسوار هذه الأرض الصغيرة ؛ فيعمل فيها وهو أكبر منها ؛ ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى . . ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولََئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
يعني بقوله جل ثناؤه : أولئك الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسنَةً وفي الاَخِرَة حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ رغبة منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده ، وعلما منهم بأن الخير كله من عنده ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء . فأعلم جل ثناؤه أن لهم نصيبا وحظا من حجهم ومناسكهم وثوابا جزيلاً على عملهم الذي كسبوه ، وباشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم خاصا ذلك لهم دون الفريق الاَخر الذين عانوا ما عانوا من نصب أعمالهم وتعبها ، وتكلفوا ما تكلفوا من أسفارهم بغير رغبة منهم فيما عند ربهم من الأجر والثواب ، ولكن رجاء خسيس من عرض الدنيا وابتغاء عاجل حطامها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنيْا وَما لَه فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال : فهذا عبد نوى الدنيا لها عمل ولها نصب ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ ممّما كَسَبُوا أي حظ من أعمالهم .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إنما حجوا للدنيا والمسألة ، لا يريدون الاَخرة ولا يؤمنون بها ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال : فهؤلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ ممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسابِ لهؤلاء الأجر بما عملوا في الدنيا .
وأما قوله : وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسابِ فإنه يعني جل ثناؤه : أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما : ربنا آتنا في الدنيا ومن مسألة الاَخر : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاَخرة حسنة وقنا عذاب النار . فمحص له بأسرع الحساب ، ثم إنه مُجازٍ كلا الفريقين على عمله .
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب ، لأنه جل ذكره يحصي ما يحصى من أعمال عباده بغير عقد أصابع ولا فكر ولا روية فعل العجزة الضعفة من الخلق ، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما ، ثم هو مجاز عباده على كل ذلك فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب ، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمثل فيحتاج في حسابه إلى عقد كف أو وعي صدر .