اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّمَّا كَسَبُواْۚ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (202)

قوله تعالى : " أُولَئِكَ " مبتدأ و " لَهُمْ " خبرٌ مقدم ، و " نَصِيب " مبتدأ ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ ، ويجوز أن يكونَ " لَهُمْ " خبرَ " أولئك " ، و " نَصِيب " فاعلٌ به ؛ لما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه ، والمشارُ إليه ب " أُولئكَ " فيه قولان :

أظهرهُما : أنهما الفريقان : طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة ، وقيل : بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة ؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل ؛ حيث قال : { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } .

قوله : { مِمَّا كَسَبُواْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " نَصِيب " ، فهو في محلِّ رفعٍ ، وفي " مِنْ " ثلاثةُ أقوال :

أحدُها : أنها للتبعيض ، أي : نصيب من جِنْس ما كسبوا .

والثاني : أنها للسببيةِ ، أي : مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا .

والثالث : أنها للبيان .

فصل

قال ابن عَبَّاس في قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره ؛ فيكون له ثَوَابٌ .

و " ما " يجوزُ فيها وجهان : أن تكونَ مصدريةً ، أي : مِنْ كَسْبِهِمْ ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ .

والثاني : أنها بمعنى " الَّذِي " ، فالعائدُ محذوفٌ ؛ لاستكمال الشروط ، أي : مِنَ الذي كَسَبُوه .

و " الكَسْبُ " : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله ، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ ، أو دفع مضرَّة .

قوله : { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } السَّرِيع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت{[38]} : سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة ، فهو سَرِيعٌ ؛ مثل عَظُم يَعْظُم .

و " الحِسَاب " مصدر كالمُحَاسَبَة ، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ : العدُّ ؛ قال حَسَبَ يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت{[39]} ، والحَسْب ما عُدَّ ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل : وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه ، والمعنى أنّ الله سريع الحساب ، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ ، والاحْتِسَاب : الاعتِدَاد بالشَّيْء .

وقال الزّجَّاج{[40]} : الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم : " حَسْبُك كذا " ، أي : كَفَاك ، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً ؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة ، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان .

وقيل : { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } قال الحَسَن{[41]} : أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر .

وقيل : إتْيَان القِيَامة قريبٌ ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب ؛ قال - تعالى - { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .

وقيل : سريع الحساب ، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون ، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة ، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك .

فصل في أن الله هو المحاسب

اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه :

أحدها : أنّ معنى الحساب : أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ ما ] عليهم ، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم ، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّتها وكيفيَّاتها ، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب .

قالوا : ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له و [ ما ] عليه ، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب ، وهو مجاز مشهورٌ .

ونقل عن ابن عباس{[42]} - رضي الله عنهما - أنّه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله - تعالى - ، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم .

الثاني : أنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة ؛ قال - تبارك وتعالى -

{ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } [ الطلاق : 8 ] ، ووجه المجاز : أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة .

الثالث : أنّه تعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيَّة ما لها من الثَّواب والعقاب ، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم ؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال : إنه صوت ، قال : إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف ، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به ، والله أعلم .


[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي. ينظر: اللسان (بهل).
[39]:(نجران) بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. قال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضا من حديث كرز بن علقمة: أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا، وسرد أسماءهم. وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام، حتى يلتزم أحكام الإسلام، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى الجزية عليهم؛ فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران؛ ليأتيه بصدقتاهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري 8/428، 429.
[40]:والحبرة والحبرة: ضرب من برود اليمن منمر، والجمع حبر وحبرات. الليث: حبرة ضرب من البرود اليمانية. يقال برد حبير وبرد حبرة، مثل عنبة. على الوصف والإضافة وبرود حبرة. قال: وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشيء كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب 2/749- 750. (حبر)، النهاية في غريب الحديث 1/328.
[41]:سقط في ب.
[42]:سقط في .