قوله تعالى : " أُولَئِكَ " مبتدأ و " لَهُمْ " خبرٌ مقدم ، و " نَصِيب " مبتدأ ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ ، ويجوز أن يكونَ " لَهُمْ " خبرَ " أولئك " ، و " نَصِيب " فاعلٌ به ؛ لما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه ، والمشارُ إليه ب " أُولئكَ " فيه قولان :
أظهرهُما : أنهما الفريقان : طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة ، وقيل : بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة ؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل ؛ حيث قال : { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } .
قوله : { مِمَّا كَسَبُواْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " نَصِيب " ، فهو في محلِّ رفعٍ ، وفي " مِنْ " ثلاثةُ أقوال :
أحدُها : أنها للتبعيض ، أي : نصيب من جِنْس ما كسبوا .
والثاني : أنها للسببيةِ ، أي : مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا .
قال ابن عَبَّاس في قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره ؛ فيكون له ثَوَابٌ .
و " ما " يجوزُ فيها وجهان : أن تكونَ مصدريةً ، أي : مِنْ كَسْبِهِمْ ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ .
والثاني : أنها بمعنى " الَّذِي " ، فالعائدُ محذوفٌ ؛ لاستكمال الشروط ، أي : مِنَ الذي كَسَبُوه .
و " الكَسْبُ " : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله ، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ ، أو دفع مضرَّة .
قوله : { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } السَّرِيع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت{[38]} : سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة ، فهو سَرِيعٌ ؛ مثل عَظُم يَعْظُم .
و " الحِسَاب " مصدر كالمُحَاسَبَة ، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ : العدُّ ؛ قال حَسَبَ يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت{[39]} ، والحَسْب ما عُدَّ ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل : وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه ، والمعنى أنّ الله سريع الحساب ، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ ، والاحْتِسَاب : الاعتِدَاد بالشَّيْء .
وقال الزّجَّاج{[40]} : الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم : " حَسْبُك كذا " ، أي : كَفَاك ، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً ؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة ، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان .
وقيل : { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } قال الحَسَن{[41]} : أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر .
وقيل : إتْيَان القِيَامة قريبٌ ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب ؛ قال - تعالى - { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .
وقيل : سريع الحساب ، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون ، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة ، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك .
اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه :
أحدها : أنّ معنى الحساب : أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ ما ] عليهم ، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم ، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّتها وكيفيَّاتها ، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب .
قالوا : ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له و [ ما ] عليه ، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب ، وهو مجاز مشهورٌ .
ونقل عن ابن عباس{[42]} - رضي الله عنهما - أنّه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله - تعالى - ، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم .
الثاني : أنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة ؛ قال - تبارك وتعالى -
{ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } [ الطلاق : 8 ] ، ووجه المجاز : أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة .
الثالث : أنّه تعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيَّة ما لها من الثَّواب والعقاب ، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم ؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال : إنه صوت ، قال : إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف ، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.