البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّمَّا كَسَبُواْۚ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (202)

النصيب : الحظ وجمعه على أفعلاء شاذ ، لأنه اسم ، قالوا : أنصباء ، وقياسه : فعل نحو : كثيب وكثب .

سريع : اسم فاعل من : سرع يسرع سرعة فهو سريع ، ويقال : أسرع وكلاهما لازم .

الحساب : مصدر حاسب ، وقال أحمد بن يحيى : حسبت الحساب أحسبه حسباً وحسباناً ، والحساب الاسم ، وقيل : الحساب مصدر حسب الشيء ، والحساب في اللغة هو العدوّ ؛ وقال الليث بن المظفر ، ويعقوب : حسب يحسب حسباناً وحسابة وحسبة وحسباً ، وأنشد :

وأسرعت حسبة في ذلك العدد***

ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والاحساب : الاعتداد بالشيء .

وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان .

{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا } تقدّم انقسام الناس إلى فريقين : فريق اقتصر في سؤاله على دنياه ، وفريق أشرك في دنياه أخراه ، فالظاهر أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، إذ المحكوم به ، وهو كون : نصيب لهم مما كسبوا ، مشترك بينهما ، والمعنى : أن كل فريق له نصيب مما كسب ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .

ولا يكون الكسب هنا الدعاء ، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين ، وأن انصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم .

وقيل : المراد بالكسب هنا الدعاء ، أي : لكل واحد منهم نصيب مما دعا به .

وسمي الدعاء كسباً لأنه عمل ، فيكون ذلك ضماناً للإجابة ووعداً منه تعالى أنه يعطي كّلاً منه نصيباً مما اقتضاه دعاؤه ، إما الدنيا فقط ، وإما الدنيا والآخرة ، فيكون كقوله : { من كان يريد حرث الآخرة } { ومن كان يريد العاجلة } و { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآيات .

وكما جاء في الصحيح : وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها .

وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة .

و : من ، في قوله : مما كسبوا ، يحتمل أن تكون للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا ، ويحتمل أن يكون للسبب ، و : ما ، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي : من كسبهم ، وقيل : أولئك ، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط ، ولم يذكر ابن عطية غيره .

وذكره الزمخشري بإزائه .

قال ابن عطية : وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد ، وقال الزمخشري : أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة ، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : مما خطاياهم اغرقوا ، ثم قال بعد كلام : ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا .

انتهى كلامه .

والأظهر ما قدمناه من أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، ويؤيده قوله : { والله سريع الحساب } وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق ، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق ، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم ، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين .

وروي عن ابن عباس : أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت ، يكون الثواب بينه وبين الميت ، وروي عنه أيضاً ، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه .

وكان مات ؟ وفي آخره ، قال : فهل لي من أجره ؟ فنزلت هذه الآية ، قيل : وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها ، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه . انتهى .

وليست كما ذكر منفصلة ، بل هي متصلة بما قبلها ، لأن ما قبلها هو في الحج ، وأن انقسام الفريقين هو في الحج ، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط ، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة .

وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه : أله فيه أجر ؟ لعموم قوله : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكري دابته ويشرط عليهم أن يحج ، فهل يجزى عنه ؟ وذلك لعموم قوله : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } .

{ والله سريع الحساب } ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه ، وسرعته بانقضائه عجلاً كقصد مدته ، فروي : بقدر حلب شاة ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر .

أو لكونه لا يحتاج إلى فكر ، ولا رؤية كالعاجز ، قاله أبو سليمان .

أو : لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، قاله الزجاج .

أو : لكون حساب العالم كحساب رجل واحد أو لقرب مجيء الحساب ، قاله مقاتل .

قيل : كنى بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذا كانت ناشئة عنها كقوله : { ولم أدر ما حسابيه } يعنى ما جزائي ، وقيل : كنى بالحساب عن العلم بمجاري الأمور ، لأن الحساب يفضي إلى العلم ، قاله الزجاج أيضاً .

وقيل : عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده ، وقيل : عبر به عن القدرة والوفاء ، أي : لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء .

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : سريع مجيء يوم الحساب .

فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة .

وقيل : سرعة الحساب تعالى رحمته وكثرتها ، فهي لا تغب ولا تنقطع .

وروي ما يقاربه عن ابن عباس .

وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين ، ويكون حساب الكفار تقريعاً وتوبيخاً ، لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزى بها ، وهو ظاهر قوله : { ولم أدر ما حسابيه } وقال الجمهور : الكفار لا يحاسبون ، قال تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } { وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وظاهر ثقل الموازين وخفتها ، وما ترتب عليها في الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر .

/خ202