قوله تعالى : { فبما نقضهم } أي : فبنقضهم ، و{ ما } صلة .
قوله تعالى : { ميثاقهم } ، قال قتادة : نقضوه من وجوه ، لأنهم كذبوا الرسل الذين جاؤوا بعد موسى ، وقتلوا أنبياء الله ، ونبذوا كتابه ، وضيعوا فرائضه .
قوله تعالى :{ لعناهم } ، قال عطاء : أبعدناهم من رحمتنا ، قال الحسن ومقاتل : عذبناهم بالمسخ .
قوله تعالى : { وجعلنا قلوبهم قاسية } ، قرأ حمزة والكسائي قسية ، بتشديد الياء من غير ألف ، وهما لغتان مثل : الذاكية والذكية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( قاسية ) أي يابسة ، وقيل : غليظة لا تلين ، وقيل معناه : إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان ، بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق ، ومنه الدراهم القاسية وهي الرديئة المغشوشة .
قوله تعالى : { يحرفون الكلم عن مواضعه } ، قيل : هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : تحريفهم بسوء التأويل .
قوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } . أي : وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان نعته .
قوله تعالى : { ولا تزال } يا محمد .
قوله تعالى : { تطلع على خائنة منهم } ، أي : على خيانة ، فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاغية ، وقيل : هو بمعنى الفاعل ، والهاء للمبالغة مثل : رواية ونسابة ، وعلامة ، وحسابة ، وقيل : على فرقة خائنة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : على خائنة ، أي : على معصية ، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهمهم بقتله ، وسمّه ، ونحوها من خياناتهم التي ظهرت منهم
قوله تعالى : { إلا قليلاً منهم } ، لم يخونوا ولم ينقضوا العهد ، وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب .
قوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } ، أي : أعرض عنهم ، ولا تتعرض لهم .
قوله تعالى : { إن الله يحب المحسنين } ، وهذا منسوخ بآية السيف .
فكأنه قيل : ليت شعري ماذا فعلوا ؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا ؟
فبين أنهم نقضوا ذلك فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ْ }
أي : بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات : الأولى : أنا { لَعَنَّاهُمْ ْ } أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ، الذي هو سببها الأعظم .
الثانية : قوله : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ْ } أي : غليظة لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر ، فلا يرغبهم تشويق ، ولا يزعجهم تخويف ، وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى ، والخير إلا شرا .
الثالثة : أنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ْ } أي : ابتلوا بالتغيير والتبديل ، فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ولا رسوله .
الرابعة : أنهم { نسوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ } فإنهم ذكروا بالتوراة ، وبما أنزل الله على موسى ، فنسوا حظا منه ، وهذا شامل لنسيان علمه ، وأنهم نسوه وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم .
وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك ، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به ، ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ، أو وقع في زمانهم ، أنه مما نسوه .
الخامسة : الخيانة المستمرة التي { لا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ْ } أي : خيانة لله ولعباده المؤمنين .
ومن أعظم الخيانة منهم ، كتمهم [ عن ] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق ، وإبقاؤهم على كفرهم ، فهذه خيانة عظيمة . وهذه الخصال الذميمة ، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم .
فكل من لم يقم بما أمر الله به ، وأخذ به عليه الالتزام ، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب ، والابتلاء بتحريف الكلم ، وأنه لا يوفق للصواب ، ونسيان حظ مما ذُكِّر به ، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة ، نسأل الله العافية .
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ، لأنه هو أعظم الحظوظ ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية ، كما قال تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ } وقال في الحظ النافع : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ }
وقوله : { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ْ } أي : فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ْ } أي : لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى ، الذي يقتضي أن يعفى عنهم ، واصفح ، فإن ذلك من الإحسان { إن اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ْ } والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وفي حق المخلوقين : بذل النفع الديني والدنيوي لهم .
لقد بين - سبحانه - جانبا من رذائلهم ، ومن العقوبات التي عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } .
والفاء في قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم } للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم ، والباء للسبيبة و " ما " مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس والجار والمجرور - متعلق بقوله : { لَعنَّاهُمْ } .
وقوله : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } معطوف على ما قبله .
وقوله : { قَاسِيَةً } بوزن فاعلة - من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال : قسا قلبه يقسو فهو قاس ، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا .
وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب .
أي فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأُر بالمواعظ والنذر .
وقرأ حمزة والكسائي : { وجعلنا قلوبهم قسية } بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة .
أحدهما : { قسية } بمعنى قاسية ، غير أن فيها مبالغة ، إذ هي على وزن فعيلة ، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم .
والثاني : أن معنى { قسية } هنا غير معنى قاسية ، لأن قسية في هذا الموضع مأخوذة من قولهم : درهم قسى - على وزن شقى - أي : فاسد رديء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم .
والمعنى على هذا الوجه : وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما .
وقد رجح ابن جرير الرأي الأول - وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة - فقال ( وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة ، لأن الله - تعالى - وصف القوم بنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإِيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش ) .
وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثاني إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازماً في المعنى فقال : وقرأ عبد الله { قسية } أي : ردية مغشوشة . من قولهم : درهم قسى وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة .
وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم ، فإنه لا قسوة أشد من تحريف كلام الله - تعالى - والميل به عن الحق والصواب .
أي : أنهم بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم ، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه - سبحانه - عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل ، أو التفسير الفاسد ، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تراة وبالنقصان أخرى ، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة .
وعبر - سبحانه - بقوله : { يُحَرِّفُونَ } بصيغة الفعل المضارع ، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين . والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم في هذا الخلق الذميم .
فإن هذا التحريف الذي حكاه الله - تعالى - في هذه الآية قد كان من بني إسرائيل بعد عهد موسى - عليه السلام - واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبي صلى الله عليه وسلم لهم ومن تحذيره إياهم .
والمراد بالنسيان في قوله : { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } الترك والإِهمال قال الراغب : ( النسيان : ترك الإِنسان ضبط ما استودع . إما لضعف قلبه ، وإما عن غفلة ، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره ) .
والأنواع الثلاثة التي ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم ، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة .
والتنكير في قوله { حَظَّا } للتكثير والتهويل . أي : تركوا نصيبا كبيراً مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره .
وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن في هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم ، فلما بين القرآن ذلك ، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل .
ولما كانت أخلاق الآباء كثيراً ما يتوارثها الأبناء ، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود المعاصرين له ، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } .
وقوله { خَآئِنَةٍ } بمعنى الخيانة أي عدم الوفاء بالعهد . فهي مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية . قال - تعالى - { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } أي بالطغيان . ويحتمل أن يكون قوله { خائنة } صفة لموصوف محذوف أي على فرقة خائنة أو طائفة .
والمعنى : ولا تزال - أيها الرسول الكريم - ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة . وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم ، وغدرهم ونقضهم لعهودهم . إلا قليلا منهم دخلوا في الإِسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها .
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة . فكأنه الله - تعالى - يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئاً مستبعداً ، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد : وفيها - أيضاً - تحذير له صلى الله عليه وسلم من شرورهم ومن مسالكم الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله { وَلاَ تَزَال } المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم .
وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور في قوله { خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } والمراد بهذا العدد القليل منهم ، أولئك الذين دخلوا في الإِسلام ، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله .
ثم ختم سبحانه - الآية بقوله : { فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } والعفو عدم مقابلة الإِساءة بمثلها .
والصفح : ترك اللوم والمعاتبة . ولذا قالوا : الصفح أعلى رتبة من العفو ، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهراً . أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإِساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن .
وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنه :
1 - فيرى بعضهم أن المراد بهم ، القلة اليهودية التي أسلمت ، واستثناها الله بقوله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهذا الرأي مردود بأنهم ما داموا قد آمنوا ، فقد عصموا دماءهم وأموالهم ، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع .
2 - ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود ، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وهذا الرأي ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر - كما سنبين .
3 - ويرى أبو مسلم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم .
والذي نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود ، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، مع العفو عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإِسلامية .
فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين ، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التي تقى المسلمين شرورهم ، لأن العفو عنهم - عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة - يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو في غير موضعه . وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم . وربما اعتبر توضيحاً له . فكأن الله - تعالى - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم ، واصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر في سير الدعوة الإِسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم ، إن الله تعالى يحب المحسنين .
وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانباً مما أخذ الله على بني إسرائيل من عهود ومواثيق ، ورغَّبتهم في الوفاء بها وحذرتهم . من نقضها ، كما بينت بعض العقوبات التي عاقبتهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبي صلى الله عليه وسلم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقي المسلمين من شرورهم ومكرهم .
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا ، وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . . . )
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم ، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ، ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة ، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة ، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم ، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، إلا قليلا منهم . . . ) . .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى ، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ، ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد ، وتآمروا مع كل عدو لهم ، حتى تحين الفرصة ، فينقضوا عليهم ، قساة جفاة لا يرحمونهم ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه ، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة ، تعبير طريف :
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) . .
الفعلة الخائنة ، والنية الخائنة ، والكلمة الخائنة ، والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . . ( خائنة ) . . لتبقى الخيانة وحدها مجردة ، تملأ الجو ، وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم ، وهذا هو جوهر موقفهم ، مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها ، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ؛ وتسمع توجيهاته ؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة ، وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ؛ وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية :
( فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين ) . .
والعفو عن قبائحهم إحسان ، والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } . .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تعجبنّ من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم ، غدرا منهم بك وأصحابك ، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي ، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا وقد تُخيروا من جميعهم ليتجسسوا أخبار الجبابرة ، ووعدتهم النصر عليهم ، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، بعد ما أريتهم من العبر والاَيات بإهلاك فرعون وقومه في البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتم ، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي ، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم ، فلا تستنكروا مثله من فعل آراذلهم . وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر عليه ، وذلك أن معنى الكلام : فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل ، فنقضوا الميثاق ، فلعنتهم ، فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، فاكتفى بقوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من ذكر «فنقضوا » . ويعني بقوله جلّ ثناؤه : فبما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ فبنقضهم ميثاقهم . كماقال قتادة .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : فَبما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه .
وقد ذكرنا معنى اللعن في غير هذا الموضع . والهاء والميم من قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة : قاسِيَةً بالألف ، على تقدير فاعلة ، من قسوة القلب ، من قول القائل : قسا قلبه ، فهو يقسو وهو قاس ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسا صلبا ، كما قال الراجز :
*** وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتي ***
فتأويل الكلام على هذه القراءة : فلعنا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني ، وجعلنا قلوبهم قاسية غليظة يابسة عن الإيمان بي والتوفيق لطاعتي ، منزوعة منها الرأفة والرحمة . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيةً » .
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : معنى القسوة ، لأن فعيلة في الذمّ أبلغ من فاعلة ، فاخترنا قراءتها قسيّة على قاسية لذلك .
وقال آخرون منهم : بل معنى «قسية » غير معنى القسوة وإنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله ، ولكن يخالط إيمانها كفر كالدراهم القَسِية ، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك ، كما قال أبو زُرَبيْد الطائي :
لَهَا صَوَاهِلُ في صُمّ السّلامِ كمَا ***صاحَ القَسِيّاتُ في أيدِي الصّيارِيفِ
يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور ، وهي السّلام .
وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ : «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيّةً » على فعلية ، لأنها أبلغ في ذمّ القوم من قاسية .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله فعيلة من القسوة ، كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان ، فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غشّ .
القول في تأويل قوله تعالى : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .
يقول عزّ ذكره : وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية ، منزوعا منها الخير ، مرفوعا منها التوفيق ، فلا يؤمنون ، ولا يهتدون ، فهم لنزع الله عزّ وجلّ التوفيق من قلوبهم والإيمان يحرّفون كلام ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو التوراة ، فيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ على نبيهم ويقولون لجهال الناس : هذا هو كلام الله الذي أنزله على نفسه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التي أوحاها إليه . وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم ، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله والفرية عليه ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ يعني : حدود الله في التوراة ، ويقولون : إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه ، وإن خالفكم فاحذروا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ .
يني تعالى ذكره بقوله : وَنَسُوا حَظّا : وتركوا نصيبا ، وهو كقوله : نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا أمر الله فتركهم الله وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغني ذلك عن إعادته .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ يقول : تركوا نصيبا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ قال : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله جلّ ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .
يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم عهدي ، مع أياديّ عندهم ، ونعمتي عليهم ، على مثل ذلك من الغدر والخيانة ، إلا قليلاً منهم . والخائنة في هذا الموضع : الخيانة ، وهو اسم وضع موضع المصدر ، كما قيل خاطئة : للخطيئة ، وقائلة : للقيلولة .
وقوله : إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ اسثناء من الهاء والميم اللتين في قوله : على خائِنَةٍ مِنْهُمْ .
وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ولاَ تَزَالُ تَطّلِعُ على خائنَةٍ مِنْهُمْ قال : على خيانة وكذب وفجور .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ قال : هم يهود مثل الذي همّوا به من النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد وعكرمة : قوله : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ من يهود مثل الذي همّوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم .
وقال بعض القائلين : معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، قال : والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر كقولهم : هو رواية للشعر ، ورجل علامة ، وأنشد :
حَدّثْتَ نفسَكَ بالوَفاءِ ولم تكُنْ ***للغدْرِ خائنةً مُغِلّ الإصْبَعِ
فقال خائنة ، وهو يخاطب رجلاً .
والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل ، لأن الله عنى بهذه الاَية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين ، فأطلعه الله عزّ ذكره على ما قد همّوا به . ثم قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة ، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جلّ ثناؤه : ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد . ولم يرد أنه لا يزال يطلّع على رجل منهم خائن ، وذلك أن الخبر ابتدىء به عن جماعتهم ، فقيل : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمح إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ ، ثم قيل : وَلا تَزَالَ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ ، فإذ كان الابتداء عن الجماعة فلتختم بالجماعة أولى .
القول في تأويل قوله تعالى : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنينَ .
وهذ أمر من الله عزّ ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود ، يقول الله جلّ وعزّ له : اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين همّوا بما همّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرّض لمكروههم ، فإني أحبّ من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه . وكان قتادة يقول : هذه منسوخة ، ويقول : نسختها آية براءة : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قال : نسختها : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ولم يؤمر يؤمئذٍ بقتالهم ، فأمره الله عزّ ذكره أن يعفو عنهم ويصفح ، ثم نسخ ذلك في براءة فقال : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وهم أهل الكتاب . فأمر الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا ، أو يقرّوا بالجزية .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليم ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة نحوه .
والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه ، غير أن الناسخ الذي لا شكّ فيه من الأمر ، هو ما كان نافيا كلّ معاني خلافه الذي كان قبله . فأما ما كان غير ناف جميعه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جلّ وعزّ ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . وليس في قوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جائزا مع إقرارهم بالصّغار وأدائهم الجزية بعد القتال ، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها أو نكثة عزموا عليها ، ما لم ينصبوا حربا دون أداء الجزية ، ويمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم ، لم يكن واجبا أن يحكم لقوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . الاَية ، بأنه ناسخ قوله : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ .