إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } الباء سببية ، و( ما ) مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس ، أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً { لعنّاهم } طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، أو مسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ ، أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم . وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ ، بأن يقال مثلاً : فنقَضوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان ، وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السببية والمُسبَّبية { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } بحيث لا تتأثرُ من الآيات والنذُر ، وقيل : أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ ، أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرئ ( قَسِيّة ) ، وهي إما مبالغةُ قاسية ، وإما بمعنى رديئة ، من قولهم : دِرْهمٌ قسيٌّ ، أي رديء ، إذا كان مغشوشاً له يَبْسٌ وخشونة ، وقرئ بكسر القاف إتباعاً لها بالسين { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ أعظمُ مما يصحح الاجتراءَ على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه ، وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدُّد والاستمرار ، وقيل : حالٌ من مفعول لعناهم { وَنَسُوا حَظًّا } أي تركوا نصيباً وافراً { ممَّا ذُكّرُوا بِهِ } من التوراة ومن اتّباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ( قد ينسى المرءُ بعضَ العلم بالمعصية ) وتلا هذه الآية { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ منهُمْ } أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة ، أي ذاتِ خيانة ، أو طائفةٍ خائنة ، أو شخصٍ خائنةٍ ، على أن التاء للمبالغة ، أو نفسٍ خائنةٍ ، و( منهم ) متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها ، خلا أن ( مِنْ ) على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ ، أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم ، وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية ، والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يترُكونها ويكتُمونها فلا تزال ترى ذلك منهم . { إِلاَّ قَلِيلاً منهُم } استثناء من الضمير المجرور في ( منهم ) على الوجوه كلِّها ، وقيل : مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرة ، والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبد اللَّه بنِ سَلام وأضرابِه ، وقيل : من خائنة على الوجه الثاني ، فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل ، ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر ، أي إلا فعلاً قليلاً كائناً منهم { فاعف عَنْهُمْ واصفح } أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية ، وقيل : مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به ، وتنبيهٌ على أن العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان .