روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالاً وانضماماً ، فالباء سببية ، و ( ما ) مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس ، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء ، والجار متعلق بقوله تعالى : { لَّعَنَهُمُ } أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم قاله عطاء وجماعة وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم ، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والابعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه ، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه ، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق ( نفس ) اللعن والنقض بأن يقال مثلاً : فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان ، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية .

{ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ } يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . وقيل : المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وهذا كما تقول لغيرك : أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء ، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها ، وقال الجبائي المعنى : بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال ، وقرأ حمزة والكسائي ( قسية ) ، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل ، أو بمعنى ردية من قولهم : درهم قسى إذا كان مغشوشاً ، وهو أيضاً من القسوة ، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة ، وقيل : إن قسى غير عربي بل معرب ، وقرىء ، قسية بكسر القاف للاتباع .

{ يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل ، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة ، وللدلالة على التجدد والاستمرار ، وجوز أن يكون حالا من مفعول { لعناهم } ، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف ، وجعله حالا من القلوب ، أو من ضميره في { قَاسِيَةً } كما قيل ، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال ، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها { وَنَسُواْ حَظَّا } أي وتركوا نصيباً وافياً ، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير { مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } من التوراة أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم ، وأخرج ابن المبارك وأحمد في «الزهد » عن ابن مسعود قال : إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها ، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور *** ونور الله لا يهدى لعاصي

{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ } أي خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة كالكاذبة ، واللاغية أو فعلة خائنة أي ذات خيانة ، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو فرقة خائنة ، أو نفس خائنة ، أو شخص خائنة على أنه وصف ، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة ، و { مِنْهُمْ } متعلق بمحذوف وقع صفة لها ، خلا أن من على الوجهين الأولين ابتدائية أي على خيانة ، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم ، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية ، والمعنى إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور في { مِنْهُمْ } ؛ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعله بعضهم استثناء من { خَائِنَةَ } على الوجه الثاني ، فالمراد بالقليل الفعل القليل : و { مِنْ } ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلاً كائناً منهم ، وقيل : الاستثناء من قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } .

{ فاعف عَنْهُمْ واصفح } أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر واختاره الطبري ، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره ، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك ، وعلى القولين فالآية محكمة ، وقيل : الضمير عائد على ما اختاره الطبري ، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] الآية . وروي ذلك عن قتادة ، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء } [ الأنفال : 58 ] { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } الذي وثقوه { لعناهم } وطردناهم عن الحضرة { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها { وَنَسُواْ حَظَّا } نصيباً وافراً { مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ } من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه { فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } [ المائدة : 13 ] إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين