قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } الآية .
قد تقدَّم الكلامُ على نَظِيره .
قال القُرْطُبِي{[11213]} : والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم ، و " مَا " زائدة للتَّوْكيد .
قال قتادةُ وغيرُه{[11214]} : وذلك أنَّها تؤكِّد الكلام بمعنى تمكنه في النَّفْس من جهة حسن النَّظْم ، ومن جهة تَكْثِيرِه [ للتَّوْكِيد ]{[11215]} ، كقوله [ الوافر ]
. . . *** لِشَيْءٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ{[11216]}
وقيل : نَقْضُ الميثاق تكْذيبُ الرُّسل ، وقيل{[11217]} : الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : كِتْمَانهم صفة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المَجْمُوع .
وقال عطاء : " لَعَنَّاهم " أبعدناهم من رحمتنا ، وقال الحسن ومُقاتل : مسَخْنَاهم قِرَدة وخنازير . وقال ابن عبَّاس : ضربنا الجِزْية عَلَيْهِم{[11218]} .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } .
قرأ الجمهور " قَاسِيَة " اسم فاعل من قَسَا يَقْسُو .
وقرأ{[11219]} الأخوان وهي قراءة عَبْد الله " قَسِيَّة " بفتح القاف وكَسْرِ السِّين وتشديد اليَاء ، واختلف الناس في هذه القراءة .
فقال الفَارِسي : لَيْسَت من ألْفَاظِ العرب [ في الأصل ]{[11220]} ، وإنَّما هي كَلِمَةٌ أعْجَمِيَّةٌ معرَّبة ، يعني أنها مأخوذَةٌ من قولهم : درهم قَسِيّ ، أي : مَغْشُوش ، شبَّه قلوبهم في كونها غير صَافِية من الكَدَرِ بالدَّراهم المَغْشوشة غير الخَالِصَة ، وأنْشَدُوا قول أبي زُبَيْد : [ البسيط ]
لها صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا *** صَاحَ القَسِيَّاتُ في أيْدِي الصَّيَارِيفِ{[11221]}
وَمَا زَوَّدُونِي غَيْرَ سَحْقِ عمَامَةٍ *** وَخَمْسِ مِىءٍ مِنْهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ{[11222]}
وقال الزَّمَخْشَرِي{[11223]} ، وقرأ عبد الله " قسيَّة " ، أي : رديئة مغشوشة من قولهم : " درهم قَسيّ " ، وهو من القَسْوة ؛ لأن الذَّهَبَ والفضَّةَ الخالِصَيْن فيهما لين ، والمغشوش فيه صلابةٌ ويُبْسٌ والقَاسِي والقاسِح بالحاء المهملة أخوان في الدَّلالة على اليُبْس .
وهذا القول سبقه إليه " المُبَرِّد " ، فإنه قال : " يسمى الدِّرْهم المَغْشُوش قَسِيًّا لصلابته وشدَّتهِ للغِشِّ الذي فيه " ، وهو يرجعُ للمعنى الأوَّل ، والقاسِي والقَاسِح بمعنى واحد .
وعلى هذين القَولَيْن تكون اللَّفظة عَرَبيَّةً .
وقيل : بل هذه القِرَاءَةُ توافق قِراءَة الجَمَاعَة في المعنى والاشْتِقَاق ؛ لأنَّه " فَعِيل " للمُبَالغة ك " شاهد " ، و " شهيد " ، فكذلك قاسٍ وقَسِيّ ، وإنما أنِّث على معنى الجماعةِ في المعنى والاشْتِقَاق .
وقرأ الهَيْصَم{[11224]} بن شداخ : " قُسِيَّة " بضم القَافِ وتشديد اليَاء .
وقرئ {[11225]} " قِسِيَّة " بكسر القاف إتْبَاعاً ، وأصْلُ القراءَتَيْن : " قاسِوَة " ، و " قَسِيوة " لأن الاشْتِقَاق من القَسْوة .
والمعنى أنَّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان ، بل إيمانُهُم مشوبٌ بالكُفْرِ والنِّفَاق ، وقيل : نائيةٌ عن قُبُول الحقِّ ، مُنْصَرِفة عن الانقيادِ للدَّلائل .
وقالت المُعْتَزِلَة{[11226]} : أخْبِرْنا عنها بأنَّها صارت قَاسِيَة ، كما يُقَال : فلانٌ جعل فُلاناً قاسِياً وعدْلاً . ثم إنَّه تعالى ذكر بَعْضَ نتائج تلك القَسْوَة ، فقال : { يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ } وهذا التَّحْرِيفُ هو تَبْدِيلُهم نعت النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - ، وقيل : التَّأويل البَاطل .
والجملة من قوله : " يُحَرِّفُونَ " فيها أرْبَعَةُ أوْجُه :
أحدها : أنَّها مستأنَفَةٌ بيان لِقَسْوة قُلُوبهم ؛ لأنَّه لا قَسْوَةَ أعظم من الافتراء{[11227]} على اللَّه تعالى .
والثاني : أنَّها حَالٌ من مَفْعُول " لَعَنَّاهُمْ " أي : لَعَنَّاهم حال اتِّصافهم بالتَّحْريف .
والثالث : قال أبو البقاء{[11228]} : أنَّها حال من الضَّمِير المسْتَتِر في " قَاسِيَة " .
وقال : ولا يجُوزُ أن يكون حَالاً من " القُلُوب " ؛ لأنَّ الضَّمير في " يُحَرِّفُون " لا يرجع إلى " القُلُوب " ، وفي هذا نَظَرٌ من حيث جواز أن يكون حَالاً من الضَّمِير في " قَاسِيَة " ، يَلزَمُهُ أن يُجوِّزَ أن يكون حَالاً من " القُلُوبِ " ، لأنَّ الضَّمير المستتر في " قَاسِيَة " يعود على " القُلُوبِ " ، فكما يمتَنِعُ أن يكون حالاً من ظاهره{[11229]} [ يمتنع أن يكون حالاً من ضميره ]{[11230]} ، وكأنَّ المانع الذي توهمه كون الضَّمير وهو الواو في " يُحَرِّفُون " إنَّما يعُود على اليَهُودِ بِجُمْلَتِهِم لا على قُلُوبهم خاصَّةً ، فإن القُلُوب لا تحرَّف ، إنما يُحرَّف أصْحَابُ القُلوب ، وهذا لازِمٌ له في تجويزه الحالِيَّة من الضَّمِير في " قَاسِيَة " .
ولقائِل أن يَقُول : المراد ب " القُلُوب " نفس الأشْخَاص ، وإنما عبَّر عنهم بالقُلُوب ؛ لأن هذه الأعضاء هي محلُّ التَّحْريف ، أي : إنَّه صَادِرٌ عَنْها بتَفَكُّرِها فيه ، فيجُوزُ على هذا أن يكُون حَالاً من " القُلُوب " .
والرابع : أن يكون حالاً من " هم " في " قُلُوبِهم " .
قال أبو البَقَاء{[11231]} : وهو ضعيف يعني : لأنَّ الحال من المُضَاف إليه لا تَجُوزُ ، وغيره يجوِّزُ ذلك في مثل هذا الموضع ؛ لأن المُضافَ بَعْضُ المُضَافِ إليه .
وقرأ الجمهور بفتح الكاف{[11232]} وكَسْرِ اللاَّم ، وهو جمع " كَلِمَة " .
وقرأ{[11233]} أبو رجاء " الكِلْم " بكَسْرِ الكَافِ وسُكُون اللاَّم ، وهو تَخْفيفُ قِرَاءة الجَمَاعَة ، وأصْلُها أنَّه كَسَرَ الكاف إتْبَاعاً ، ثم سكن العَيْنَ تَخْفِيفاً .
وقرأ السُّلمي{[11234]} والنَّخْعي : " الكَلاَم " بالألِف ، و " عَنْ مَوَاضِعهِ " وتقدَّم مثله في " النِّسَاء " [ النساء : 46 ] .
قوله تعالى : { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } .
قال ابن عباسٍ{[11235]} : تركوا نَصِيباً ممَّا أمِرُوا بِهِ من الإيمَان بِمُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - .
قوله - سبحانه - : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } .
في " خَائِنَةٍ " [ ثَلاثةُ أوْجُه ]{[11236]} :
أحدها : أنَّها اسم فاعل ، والهاء لِلْمُبَالغة ك " راوية وعلاَّمة [ ونسَّابة ]{[11237]} " ، أي : على شخص خائن .
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ *** لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ{[11238]}
الثاني : أن التَّاء للتَّأنيث ، وأنِّث على معنى : طائفة أو فرقة أو نفس أو فَعْلة خائنة .
قال ابن عبَّاسٍ : " على خَائِنَةٍ " ، أي : على مَعْصِية ، وكانت خِيَانَتُهُم نقض العَهْدِ ، ومظاهرتُهمْ المُشْرِكين على حَرْبِ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهَمّهم بِقَتْلِهِ وسمه ونحوها من الخِيَانَاتِ الَّتي ظَهَرَتْ منهم .
الثالث : أنها بمعنى المَصْدَرِ ك " العافِيَة والعَاقِبَة{[11239]} والكاذِبَة واللاغية والواقِيَة " ، قال تعالى : { فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ } [ الحاقة : 5 ] أي : بالطُّغيان ، وقال : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] أي كذب ، وقال : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] أي : لغواً .
وتقول العرب : سمعت رَاغِيَة الإبل ، وثاغية الشاء ، يعنون رُغَاءَها وثُغَاءَها .
قال الزَّجَّاج{[11240]} : [ ويقال ]{[11241]} عافاه اللَّهُ عافِيَةً ، ويؤيِّد هذا الوجْهُ قراءة الأعمش{[11242]} " على خِيَانَة " وأصل " خَائِنة " خاوِنَة وخِيَانة وخوانة [ لقولهم : تَخوَّنَ ، وخَوَّان ]{[11243]} وهو [ أخْوَن ، وإنما أُعِلاَّ إعلال " قائمة " ، و " قيام " ]{[11244]} .
و " مِنْهُم " صفة ل " خَائِنة " إن أُرِيد بها الصِّفَة ، وإن أُرِيد بها المَصْدر قُدِّر مضَاف ، أي : من بَعْض خيَانَاتِهِم .
قوله تعالى : " إلاَّ قَلِيلاً " منصُوب على الاسْتِثْنَاء ، وفي المُسْتَثْنَى منه أربَعَةُ أقْوال :
أظهرُهَا ، أنَّه لفظ " خَائِنة " ، وهُمَ الأشخاص المَذْكورُون في الجُمْلَةِ قَبْلَه ، أي : لا تَزالُ تطَّلِع على مَنْ يَخُون منهم إلاَّ القليل ، فإنَّه لا يَخُون فلا تَطلعْ عليه ، وهم الذين أسْلَمُوا من أهْلِ الكِتَاب كعَبْدِ الله بن سلام وأصْحَابه .
قال أبُو البَقَاء{[11245]} : " ولو قُرئ بالجَرِّ على البَدَلِ لكان مُسْتَقِيماً " ، يعني على البَدَل من " خَائِنَة " ، فإنَّهُ في حيز{[11246]} كلامٍ غير مُوجب .
والثاني ذكره ابْنُ عطيَّة{[11247]} : أنَّهُ الفعل أي : لا تَزَالُ تَطَّلِعُ على فِعْلِ الخيانة إلا فَعْلاً قَلِيلاً ، وهذا واضِحٌ إن أُريد بالخِيَانَة أنَّها صِفَةٌ لِلْفَعْلَةِ المقدَّرَة كما تقدَّم ، ولكن يبْعد ما قاله ابنُ عطيَّة قوله بعده : " مِنْهُم " ، وقد تقدَّم لَنَا نَظِيرُ ذلك في قوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] من حَيْث جَوَّز الزَّمَخْشَرِيّ فيه أنْ يكون صِفَةً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ .
الثالث : أنَّه " قُلُوبهُم " في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } ، قال صاحب هذا القول : والمُرادُ بِهِمْ : " المُؤمِنُون ؛ لأنَّ القَسْوَة زالت عن قُلُوبِهِم " ، وهذا بَعِيدٌ جدًّا ؛ لقوله : " لَعَنَّاهُمْ " .
الرابع : أنَّهُ الضَّمِير في " مِنْهُم " من{[11248]} قوله : { عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } قال مَكيّ{[11249]} .
قوله [ تعالى ] : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } .
قيل : " العَفْوُ " نُسِخَ بآية السَّيْف ، وقيل : لَمْ يُنْسَخُ ، وعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : معناه : فاعْفُ عن مُؤمنيهم ، ولا تُؤاخِذْهُم بما سلَفَ منهم .
الثاني : أنَّا إن حملنا القَلِيل على الكُفَّار [ منهم الذين بَقُوا على الكُفْر ] ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أمر رسوله بالعَفْوِ عنهم في صَغَائِر زَلاَّتِهِم ما داموا بَاقِين على العهد ، وهو قَوْل أبِي مُسْلِم{[11250]} .
ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
قال ابنُ عبَّاسٍ : إذا عَفَوْت فأنْتَ مُحْسِنٌ ، وإذا كنْتَ مُحْسناً فقد أحبَّك اللَّه{[11251]} .
وقيل : المراد بهؤلاء المُحْسنين : هم المَعْنيّون بقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } وهمُ الذين ما نَقَضُوا الْعَهْد .