قوله تعالى : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } ، الاستعجال : طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والسيئة هاهنا هي : العقوبة ، والحسنة : العافية . وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال-32 ] . { وقد خلت من قبلهم المثلات } ، أي : مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات . والمثلات جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء ، مثل : صدقة وصدقات .
{ 6 } { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }
يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله المشركين به ، الذين وعظوا فلم يتعظوا ، وأقيمت عليهم الأدلة فلم ينقادوا لها ، بل جاهروا بالإنكار ، واستدلوا بحلم [ الله ] الواحد القهار عنهم ، وعدم معاجلتهم بذنوبهم أنهم على حق ، وجعلوا يستعجلون الرسول بالعذاب ، ويقول قائلهم : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }
{ و } الحال أنه { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ } أي : وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين ، أفلا يتفكرون في حالهم ويتركون جهلهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } أي : لا يزال خيره إليهم وإحسانه وبره وعفوه نازلا إلى العباد ، وهم لا يزال شرهم{[452]} وعصيانهم إليه صاعدًا .
يعصونه فيدعوهم إلى بابه ، ويجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه ، فإن تابوا إليه فهو حبيبهم لأنه يحب التوابين ، ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم ، يبتليهم بالمصائب ، ليطهرهم من المعايب { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } على من لم يزل مصرا على الذنوب ، قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء إلى العزيز الغفار ، فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم ، فإن أخذه أليم شديد .
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من طغيانهم واستهزائهم برسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات . .
والمراد بالسيئة : الحالة السيئة كالعقوبات والمصائب التي تسوء من تنزل به .
والمراد بالحسنة : الحالة الحسنة كالعافية والسلامة .
والمثلات : جمع مثلة - بفتح الميم وضم الثاء كسمرة ، وهى العقوبة الشديدة الفاضحة التي تنزل بالإِنسان فتجعله مثالاً لغيره في الزجر والردع .
والاستعجال : طلب حصول الشئ قبل حلول وقته .
أى أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الحال في الطغيان ، أنهم كانوا إذا هددهم الرسول . - صلى الله عليه وسلم - بعقاب الله إذا ما استمروا في كفرهم ، سخروا منه ، وتهكمو به وقالوا له على سبيل الاستهزاء : ائتنا بما تعدنا به من عذاب إن كنت من الصادقين .
وشبيه بهذا قوله - تعالى - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وقوله - تعالى - { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والجملة الكريمة تحكى لوناً عجيباً من ألوان توغلهم في الجحود والضلال ، حيثي طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعجيل العقوبة التي توعدهم بها ، بدل أن يطلبوا منه الدعاء لهم بالسلامة والأمان والخير والعافية .
وجملة { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } في موضع الحال ، لزيادة التعجب من جهلهم وطغيانهم ، لأن آثار الأقوام المهلكين بسبب كفرهم ما زالت ماثلة أمام أبصارهم ، وهم يرمون عليها في أسفارهم ، فكان من الواجب عليهم - لو كانوا يعقلون - أن يعتبروا بها .
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } بيان لرحمة الله - تعالى - بعباده ، ولشدة عقابه للمصرين على الكفر منهم أى : وإن ربك - أيها الرسول الكريم - لذو مغفرة عظيمة للناس مع ظلمهم لأنفسهم ، حيث أطاعوا في ارتكاب الذنوب والمعاصى .
ومن مظاهر هذه المغفرة أنه - سبحانه - لم يعاجلهم بالعقوبة . بل صبر عليهم ، وأمهلهم ، لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه ، ويقلعون عن ذنوبهم .
قال - تعالى - : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ . . . }
وإن ربك - أيها الرسول الكريم - لشديد العقاب للمصرين على كفرهم وضلالهم ومعاصيهم .
وقدم - سبحانه - مغفرته على عقوبته ، في مقابل تعجل هؤلاء الكافرين للعذاب ، ليظهر الفارق الضخم بين الخر الذي تريده - سبحانه - لهم ، وبين الشر الذي يريدونه لأنفسهم بسبب انطماس بصائرهم . . .
قال ابن كثير ما ملخصه : قوله - سبحانه - { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } .
أى : إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بلليل والنهار . ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ، ليعتدل الرجاء والخوف . كما قال - تعالى - { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين } وقال - تعالى - { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } وعن سعيد بن المسيب قال : لما هذه الآية { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ . . . } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش . ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " .
هؤلاء القوم الذين يعجبون من أن يبعثهم الله خلقا جديدا . وعجبهم هذا هو العجب ! هؤلاء يستعجلونك أن تأتيهم بعذاب الله ، بدلا من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته :
( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) . .
وكما أنهم لا ينظرون في آفاق الكون ، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض ، فهم لا ينظرون إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم ؛ وتركهم مثلة يعتبر بها من بعدهم :
( وقد خلت من قبلهم المثلات ) . .
فهم في غفلة حتى عن مصائر أسلافهم من بني البشر ، وقد كان فيها مثل لمن يعتبر .
( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) . .
فهو بعباده رحيم حتى وإن ظلموا فترة ، يفتح لهم باب المغفرة ليدخلوه عن طريق التوبة . ولكن يأخذ بعقابه الشديد من يصرون ويلجون ، ولا يلجون من الباب المفتوح .
والسياق يقدم هنا مغفرة الله على عقابه ، في مقابل تعجل هؤلاء الغافلين للعذاب قبل الهداية . ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله لهم ، والشر الذي يريدونه لأنفسهم . ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة ، وعمى القلب ، والانتكاس الذي يستحق درك النار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.