اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٖ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (6)

قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } وعلم أ ، النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القايمة ، وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا القيامة ، والبعث ، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .

قوله " قَبْلَ الحَسَنةِ " فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ .

والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة ، قاله أبو البقاء . قوله : " وقَدْ خَلتْ " يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون مستأنفة .

والعامة على فتح الميم ، وضم المثلثة الواحدة مثله ، ك " سَمُرَة " وسَمْرَات " و " صَدُقَة وصَدُقَات " وهي العقوبة الفاضحة .

قال ابن عباس : " العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن ، والأنف ، ونحوهما " .

سُمَّيت بذلك لما بين العقاب ، والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ .

يقال : أمثلتُ الرَّجل من صاحبه ، وأقصصته بمعنى واحدٍ ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها .

وقرأ ابن مصرف " المَثْلات " بفتح الميم ، وسكون الثاء ، وقيل : وهي لغة الحجاز في مثله .

وقرأ ابن وثاب : بضم الميم ، وسكون الثاء ، وهي لغة تميم .

وقرأ الأعمش ، ومجاهد بفتحهما ، وعيسى بن عمرو ، وأبو بكر في رواية بضمهما .

فأما الضم ، والإسكان : فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم ، والإسكان نحو " العُشْر في العَشَر " وقد عرف ما فيه .

قال ابنُ الأنباري : " المَثُلَة : العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم : مثل فلانٌ بفلانٍ : إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه ، أو أذنه ، أو سمل عينيه ، أو بقر بطنه ؛ فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه " .

وقال الواحدي : " وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه ، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم " .

والمعنى : يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية ، أفلا يعتبرون بها .

ثم قال { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ، لأن قوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } ، أي : حال اشتغالهم بالظلم كما يقال : رأيت الأمير على أكله ، أي حال اشتغاله بالأكل ، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً ؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة ، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة ، وهو المطلوبُ .

ويقال : إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } بل عطف عليه قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، ويحتمل الثاني على الكفَّار .

قال المفسريون : " لَذُو مَغْفرةٍ " لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا .

وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } إذا أصرُّوا على الكفر .

وروى حمّاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال : لما نزلت : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ " .

فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ، ويكون المراد من هذه المغفرة [ تأخير العقاب ] إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه ؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب ، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال .

ثم يقال : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ } إمهالهم بالتَّوبة ، ولا يعجل بالعقوبة ، فإن تابوا ، فهو ذو مغفرة ، وإن لم يتوبوا ؛ فهو شديد العقاب ؟ .

فالجواب عن الأوَّل : أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة ، وإلاَّ لوجب أن يقال : إن الكفار كلهم مغفور لهم ؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة .

وعن الثاني : أنَّ الله تمدَّح بهذا ، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل ، أما أداء الواجب ، فلا تمدح فيه ، وعندكم يجب غفران الصغائر .

وعن الثالث : أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة ؛ فسقطت الأسئلةُ .

قوله : { على ظُلْمِهِمْ } حال من " النَّاسِ " والعامل فيها ، قال أبو البقاءِ " مَغْفرةٍ " يعني : أنه هو العامل في صاحبها .