قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } وعلم أ ، النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القايمة ، وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا القيامة ، والبعث ، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
قوله " قَبْلَ الحَسَنةِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ .
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة ، قاله أبو البقاء . قوله : " وقَدْ خَلتْ " يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون مستأنفة .
والعامة على فتح الميم ، وضم المثلثة الواحدة مثله ، ك " سَمُرَة " وسَمْرَات " و " صَدُقَة وصَدُقَات " وهي العقوبة الفاضحة .
قال ابن عباس : " العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن ، والأنف ، ونحوهما " .
سُمَّيت بذلك لما بين العقاب ، والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ .
يقال : أمثلتُ الرَّجل من صاحبه ، وأقصصته بمعنى واحدٍ ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها .
وقرأ ابن مصرف " المَثْلات " بفتح الميم ، وسكون الثاء ، وقيل : وهي لغة الحجاز في مثله .
وقرأ ابن وثاب : بضم الميم ، وسكون الثاء ، وهي لغة تميم .
وقرأ الأعمش ، ومجاهد بفتحهما ، وعيسى بن عمرو ، وأبو بكر في رواية بضمهما .
فأما الضم ، والإسكان : فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم ، والإسكان نحو " العُشْر في العَشَر " وقد عرف ما فيه .
قال ابنُ الأنباري : " المَثُلَة : العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم : مثل فلانٌ بفلانٍ : إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه ، أو أذنه ، أو سمل عينيه ، أو بقر بطنه ؛ فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه " .
وقال الواحدي : " وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه ، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم " .
والمعنى : يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية ، أفلا يعتبرون بها .
ثم قال { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ، لأن قوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } ، أي : حال اشتغالهم بالظلم كما يقال : رأيت الأمير على أكله ، أي حال اشتغاله بالأكل ، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً ؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة ، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة ، وهو المطلوبُ .
ويقال : إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } بل عطف عليه قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، ويحتمل الثاني على الكفَّار .
قال المفسريون : " لَذُو مَغْفرةٍ " لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } إذا أصرُّوا على الكفر .
وروى حمّاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال : لما نزلت : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ " .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ، ويكون المراد من هذه المغفرة [ تأخير العقاب ] إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه ؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب ، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال .
ثم يقال : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ } إمهالهم بالتَّوبة ، ولا يعجل بالعقوبة ، فإن تابوا ، فهو ذو مغفرة ، وإن لم يتوبوا ؛ فهو شديد العقاب ؟ .
فالجواب عن الأوَّل : أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة ، وإلاَّ لوجب أن يقال : إن الكفار كلهم مغفور لهم ؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة .
وعن الثاني : أنَّ الله تمدَّح بهذا ، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل ، أما أداء الواجب ، فلا تمدح فيه ، وعندكم يجب غفران الصغائر .
وعن الثالث : أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة ؛ فسقطت الأسئلةُ .
قوله : { على ظُلْمِهِمْ } حال من " النَّاسِ " والعامل فيها ، قال أبو البقاءِ " مَغْفرةٍ " يعني : أنه هو العامل في صاحبها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.