فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه ، ولا برهان لما أصَّلوه ، وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }
ونور اللّه : دينه الذي أرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب ، وسماه اللّه نورا ، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة ، فإنه علم بالحق ، وعمل بالحق ، وما عداه فإنه بضده ، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين ، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم ، التي ليس عليها دليل أصلا .
{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر ، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه ، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده ، وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء ، ولهذا قال : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله ، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة ، ودعاواهم الباطلة فقال : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .
والمراد بنور الله : دين الإِسلام الذي ارتضاه . سبحانه - لعباده ديناً وبعث به رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه ، وعلى صحته ما جاء به مما يهدى القلوب ، ويشفى النفوس ، ويجعلها لا تدين بالعبادة والطاعة إلا لله الواحد القهار .
وقيل المراد بنور الله : حججه الدالة على وحدانيته - سبحانه - وقيل المراد به ، القرآن ، وقيل المراد به : نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - وكلها معان متقاربة .
والمراد بإطفاء نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ، كثغراهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في وجهه ، وعلى محاربته .
والمراد بأفواههم . أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة .
والمعنى : يريد هؤلاء الكافريون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإِسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة . .
قال الآلوسى ما ملخصه : في الكلام استعارة تمثيلية ، حيث شبه - سبحانه - حال أهل الكتاب في محاولة إبطار نبوة النبى ، صلى الله عليه وسلم ، عن طريق تكذيبهم له ، بحال من ريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه .
وروعى في كل من المشبه به معنى الإِفراط والتفريط ، حيث شبه الإِبطال والتكذيب بالإِطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله - تعالى - العظيم الشأن .
ومن شأن النور المضاف إليه - سبحانه - أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم . .
وقوله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } بشارة منه - سبحانه - للمؤمنين ، وتقرير لسنة التي لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه .
والفعل { يأبى } هنا بمعنى لا ريد أو لا يرضى - أى : أنه جار مجرى النفى ، ولذا صح الاستثناء منه .
قال أبو السعود : وإنما صح الاستثناء المفرغ - وهو قوله { إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } . من الموجب ، وهو قوله { ويأبى الله } - لكونه بمعنى النفى ، ولوقوعه في مقابلة قوله : { يُرِيدُونَ } ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى الإِرادة ، أى : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المسثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإِطفاء .
وفى إظهار " النور " في مقام الإِضمار مضافا إلى ضميره - سبحانه - زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشعار بعلة الحكم .
وجواب { وَلَوْ } في قوله { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } محذوف لدلالة ما قبله عليه .
والمعنى : يريد أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله - تعالى - لا يريد إلا إتمام هذا النور ، ولو كره الكافرون هذا الإِتمام - سبحانه - دون أن يقيم لكراهتهم وزنا .
فالآية الكريمة وعد من الله ، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكى يمضوا قدماً إلى تنفيذ ما كلهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل ، وهى في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلا الضالين وأمثالهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يريد هؤلاء المتخذون أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ يعني : أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعث به رسوله وصدّهم الناس عنه بألسنتهم أن يبطلوه ، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياء . ويَأبَى اللّهُ إلاّ أنْ يُتِمّ نُورَهُ يعلو دينه وتظهر كلمته ، ويتمّ الحقّ الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولو كره إتمام الله إياه الكافرون ، يعني : جاحديه المكذّبين به .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ يقول : يريدون : أن يطفئوا الإسلام بكلامهم .
وقوله تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله } الآية ، { نور الله } في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس فمن حيث سماه نوراً سمي محاولة إفساده والصد في وجهه إطفاء ، وقالت فرقة : النور القرآني .
قال القاضي أبو محمد : ولا معنى لتخصيص شيء مما يدخل تحت المقصود بالنور ، وقوله { بأفواههم } عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها ، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه ، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع ، وقوله { ويأبى } إيجاب يقع بعده أحياناً إلا وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي ، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقال الفراء : هو إيجاب فيه طرف من النفي ، ورد الزجاج على هذه العبارة وبيانه ما قلناه{[5614]} .
استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب ، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة ، والتألّب على مناواة الدين ، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور ، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم ، فالضمير في قوله : { يريدون } عائد إلى { الذين أوتوا الكتاب } [ التوبة : 29 ] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالةُ النور بنفخ عليه ، أو هبوب رياح ، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر .
والنور : الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى : { نوراً وهدى للناس } في سورة الأنعام ( 91 ) . والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي ، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام ، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف ، والتحريض على المقاومة . والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب ، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه ، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة ، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور ، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه . والمثال المشهور للتمثيل الصالحِ لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار :
كَأنَّ مُثَار النَّقْع فوقَ رؤوسنا *** وأسْيافَنَا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه
ولكن التفريق في تمثيليةِ الآيةِ أشدّ استقلالاً ، بخلاف بيت بشّار ، كما يظهر بالتأمّل .
وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم .
والإباء والإباية : الامتناع من الفعل ، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعلٍ وهو يمتنع منه ، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى ، فكان حالهم ، في نفس الأمر ، كحال من يحاول من غيره فعلاً وهو يأبى أن يفعله .
والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة ، كأنّه قال : ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره ، ذَلك أنّ فعل ( أبَى ) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له ، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله : { يريدون أن يطفئوا نور الله } . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه . وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل « كَرِهْت إلاّ أخَاك » .
وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم ، ولم يُجأْ به في سورة الصف ( 8 ) إذ قال : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره } لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق .
وذكر صاحب الكشاف عند قوله تعالى : { فشربوا منه إلا قليل منهم } في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة ( 249 ) : أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير { فشربوا } على اعتبار تضمين { شربوا } معنى ، فلم يطعموه إلاّ قليل ، ميلاً مع معنى الكلام .
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل : ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره .
و { لو } في { ولو كره الكافرون } اتّصالية ، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفياً . والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية ، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله . وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها ، والكافرون هم اليهود والنصارى .