اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (32)

قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } الآية .

ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عليه الصلاة والسلام . والمراد من " النور " قال الكلبيُّ : هو القرآن{[17743]} ، أي : يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً . وقيل : النور : الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه . وسمى الدلائل نوراً ؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب .

قوله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } " أن يتمّ " مفعول به ، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب ؛ لأنَّهُ في معنى النفي ، فقال الأخفشُ الصغيرُ " معنى يأبَى : يمنع " وقال الفرَّاء{[17744]} : " دخلتْ " إلاَّ " لأن في الكلام طرفاً من الجحد " وقال الزمخشريُّ : " أجْرَى " أبَى " مُجْرى " لَمْ يُرِدْ " ، ألا ترى كيف قُوبل : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { ويأبى الله } ، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره ؟ " .

والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره ، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة ، وهي المنع والامتناع .

والدليل عليه قوله عليه السلام : " وإذا أرادوا ظلمنا أبينا " {[17745]} فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم ؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف .

وقال الزَّجاج{[17746]} " إنَّ المستثنى منه محذوفٌ ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره " وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال{[17747]} : " يَأبَى بمعنى : يَكْره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لما فيه من معنى النَّفْي ، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره " . أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .


[17743]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/286).
[17744]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/433.
[17745]:أخرجه البخاري (7/461) كتاب المغازي: باب غزوة الخندق وهي الأحزاب حديث (4106) من حديث البراء.
[17746]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/492.
[17747]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/14.