التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (32)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة ، ودعاواهم الباطلة فقال : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .

والمراد بنور الله : دين الإِسلام الذي ارتضاه . سبحانه - لعباده ديناً وبعث به رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه ، وعلى صحته ما جاء به مما يهدى القلوب ، ويشفى النفوس ، ويجعلها لا تدين بالعبادة والطاعة إلا لله الواحد القهار .

وقيل المراد بنور الله : حججه الدالة على وحدانيته - سبحانه - وقيل المراد به ، القرآن ، وقيل المراد به : نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - وكلها معان متقاربة .

والمراد بإطفاء نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ، كثغراهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في وجهه ، وعلى محاربته .

والمراد بأفواههم . أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة .

والمعنى : يريد هؤلاء الكافريون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإِسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة . .

قال الآلوسى ما ملخصه : في الكلام استعارة تمثيلية ، حيث شبه - سبحانه - حال أهل الكتاب في محاولة إبطار نبوة النبى ، صلى الله عليه وسلم ، عن طريق تكذيبهم له ، بحال من ريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه .

.

وروعى في كل من المشبه به معنى الإِفراط والتفريط ، حيث شبه الإِبطال والتكذيب بالإِطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله - تعالى - العظيم الشأن .

ومن شأن النور المضاف إليه - سبحانه - أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم . .

وقوله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } بشارة منه - سبحانه - للمؤمنين ، وتقرير لسنة التي لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه .

والفعل { يأبى } هنا بمعنى لا ريد أو لا يرضى - أى : أنه جار مجرى النفى ، ولذا صح الاستثناء منه .

قال أبو السعود : وإنما صح الاستثناء المفرغ - وهو قوله { إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } . من الموجب ، وهو قوله { ويأبى الله } - لكونه بمعنى النفى ، ولوقوعه في مقابلة قوله : { يُرِيدُونَ } ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى الإِرادة ، أى : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المسثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإِطفاء .

وفى إظهار " النور " في مقام الإِضمار مضافا إلى ضميره - سبحانه - زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشعار بعلة الحكم .

وجواب { وَلَوْ } في قوله { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } محذوف لدلالة ما قبله عليه .

والمعنى : يريد أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله - تعالى - لا يريد إلا إتمام هذا النور ، ولو كره الكافرون هذا الإِتمام - سبحانه - دون أن يقيم لكراهتهم وزنا .

فالآية الكريمة وعد من الله ، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكى يمضوا قدماً إلى تنفيذ ما كلهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل ، وهى في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلا الضالين وأمثالهم .