{ 78 ْ } { قَالُوا ْ } لموسى رادين لقوله بما لا يرده : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ْ } أي : أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا ، من الشرك وعبادة غير الله ، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له ؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة ، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام .
وقولهم{[411]} : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ْ } أي : وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء ، ولتخرجونا من أرضنا . وهذا تمويه منهم ، وترويج على جهالهم ، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى ، وعدم الإيمان به .
وهذا لا يحتج به ، من عرف الحقائق ، وميز بين الأمور ، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين .
وأما من جاء بالحق ، فرد قوله بأمثال هذه الأمور ، فإنها تدل على عجز موردها ، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه ، لأنه لو كان له حجة لأوردها ، ولم يلجأ إلى قوله : قصدك كذا ، أو مرادك كذا ، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه ، أم كاذبًا ، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله ، وما يدعو إليه ، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض ، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين ، هداية الخلق ، وإرشادهم لما فيه نفعهم .
ولكن حقيقة الأمر ، كما نطقوا به بقولهم : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ْ } أي : تكبرًا وعنادًا ، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون ، ولا لاشتباه فيه ، ولا لغير ذلك من المعاني ، سوى الظلم والعدوان ، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون .
ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال - تعالى - : { قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
واللفت : الصرف واللى يقال : لفته يلفته لفتا ، أى : صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال .
أى : قال فرعون وملؤه لموسى - عليه السلام - بعد أن جاءهم بالحق المبين : أجئتنا يا موسى بما جئتنا به { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أى : لتصرفنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لك ولأخيك هارون { الكبريآء فِي الأرض } أي السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية في الأرض بصفة عامة ، وفى أرض مصر بصفة خاصة .
ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى - عليه السلام - من الدين الحق فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به ، لأن تصديقنا لكما يخرجنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا ، وينزع منا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا ، وتعيش تحت سلطانه وقهره عامتنا .
وأفردوا موسى - عليه السلام - بالخطاب في قولهم { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا . . } لأنه هو الذي كان يجابههم بالحجج التي تقطع دابر باطلهم ، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم .
وجمعوا بين موسى وهارون - عليهما السلام - في قولهم { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } باعبتار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما ، وباعتبار أن الإِيمان بأحدهما يستلزم الإِيمان بالآخر .
هذا ، والذى يتدبر هذه الآية الكريمة ، يرى أن التهمة التي وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون - عليهما السلام - هي تهمة قديمة جديدة فقوم نوح - مثلا - يمتنعون عن قبول دعوته ، لأنه في نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم ، وفي هذا يقول القرآن الكريم : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أى : يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم ، فيكون زعيما وأنتم له تابعون .
ولقد أفاض في شرح هذا المعنى صاحب الظلال - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه :
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادى ، وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .
إنها العلة القديمة الجديدة التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإِصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم ؛ والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي " الكبرياء في الأرض " وما تقوم عليه من معتقدات باطلة ، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف وفساد ، وأوهام وخرافات ، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة ، خطر على القيم الجاهلية الموروثة .
وما كان رجال من أذكياء قريش - مثلا - ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد ، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد ، كمى خشى الملأ من قوم فرعون على سطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال فرعون وملؤه لموسى : أجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا يقول : لتصرفنا وتلوينا ، عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من قبل مجيئك من الدين يقال منه : لفت فلان عنق فلان إذا لواها ، كما قال ذو الرمّة :
*** لَفْتا وتَهْزِيعا سَوَاءَ اللّفْتِ ***
التّهْزِيع : الدّقّ ، واللّفْتُ : اللّيّ . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لِتَلْفِتَنا قال : لتلوينا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا .
وقوله : وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ يعني العظمة ، وهي الفعلياء من الكبر . ومنه قول ابن الرقاع :
سُؤْدُدا غيرَ فاحِشٍ لا يُدَا *** نِيهِ تَجْبَارُهُ وَلا كِبْرِياءُ
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ قال : الملك .
قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد : وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ قال : السلطان في الأرض .
قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني ، عن مجاهد ، قال : الملك في الأرض .
قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ قال : الطاعة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ قال : الملك .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : السلطان في الأرض .
وهذه الأقوال كلها متقاربات المعاني ، وذلك أن الملك سلطان ، والطاعة ملك غير أن معنى الكبرياء هو ما ثبت في كلام العرب ، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك . وقوله : وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ يقول : وما نحن لكما يا موسى وهارون بمؤمنين ، يعني بمقرّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا .