قوله تعالى : { ويصنع الفلك } . فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليه السلام على عمل الفلك ولها عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره ، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله ويسخرون منه ، ويقولون : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة ؟ وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد . وزعم أهل التوراة : أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه أزور ، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا ، والذراع إلى المنكب ، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى ، ففعله نوح كما أمره الله عز وجل . وقال ابن عباس : اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفى البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد . قولا قتادة : كان بابها في عرضها . وروى عن الحسن : كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع . والمعروف الأول : أن طولها ثلثمائة ذراع . وعن زيد بن أسلم قال : مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ، ومائة سنة يعمل الفلك . وقيل : غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة . وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة ، وروى أنها كانت ثلاث طبقات ، الطبقة السفلى للدواب والوحوش ، والطبقة الوسطى فيها الإنس ، والطبقة العليا فيها الطير ، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، فلما وقع القار بجوف السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها ، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفار .
قوله تعالى : { وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } ، كانوا يقولون : إن هذا الذي يزعم أنه نبي قد صار نجارا ، وروي أنهم كانوا يقولون له : يا نوح ماذا تصنع ؟ فيقول أصنع بيتا يمشي على الماء ، فيضحكون منه ، { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم } ، إذا عاينتم عذاب الله ، { كما تسخرون } ، فإذا قيل : كيف تجوز السخرية من النبي ؟ قيل : هذا على ازدواج الكلام ، يعني إن تستجهلوني فإني استجهلكم إذا نزل العذاب بكم ، وقيل : معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم
فامتثل أمر ربه ، وجعل يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ } ورأوا ما يصنع { سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا } الآن { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } نحن أم أنتم . وقد علموا ذلك ، حين حل بهم العقاب .
وجاء التعبير بالفعل المضارع مع أن الصنع كان فى الماضى : استحضارا لصورة الصنع ، حتى لكأن نوحا - عليه السلام - يشاهد الآن وهو يصنعها .
ثم بين - سبحانه - موقف قومه منه وهو يصنعها وقال : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ . . . }
والسخرية : الاستهزاء . يقال : سخر فلان من فلان وسخر به ، إذا استخف به وضحك منه .
أى : امتثل نوح لأمر ربه ، فطفق يصنع الفلك ، فكان الكافرون من قومه كلما مروا به وهو يصنعها استهزأوا به ، وتعجبوا من حاله ، وقالوا له على سبيل التهكم به ، يا نوح صرت نجارا بعد أن كنت نبيا ، كما جاء فى بعض الآثار .
وهنا يرد عليهم نوح بقوله : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } .
أى قال نوح لهم : إن تسخروا منى ومن أتباعى اليوم لصنعنا السفينة ، وتستجهلوا منا هذا العمل ، فإنا سنسخر منكم فى الوقت القريب سخرية محققة فى مقابل سخريتكم الباطلة .
قال الإِمام الرازى : وقوله { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } فيه وجوه :
الأول : التقدير : إن تسخروا منا فى هذه الساعة فإنا نخسر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق فى الدنيا والخزى فى الآخرة .
الثانى : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسخرية منا .
الثالث : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم ، واستجهالكم أقبح وأشد ، لأنكم لا تستجهلون إلأا لاجل الجهل بحقيقة الأمر ، والاغترار بظاهر الحال ، كما هو عادة الأطفال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.