اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

قوله : { وَيَصْنَعُ الفلك } قيل : هذا حكايةُ حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك . وقيل : التقديرُ : وأقبل يصنع الفلك ، فاقتصر على قوله : " يَصْنَع " . قيل : إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال : إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجَّارٍ ؟ فقال : إنَّ ربَّك يقولُ : اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي ، فأخذ القدوم ، وجعل يصنعُ ولا يخطئ . وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر .

روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة ؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة ، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى .

وقيل : في أربعين سنة ، وكانت من خشب الساج . وفي التوراة أنها من الصنوبر .

قال البغويُّ - رحمه الله - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً ، وعرضها خمسين ذراعاً ، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع{[18780]} [ وعرضها خمسين ذراعاً .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع ]{[18781]} .

وقيل : ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ .

واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً ، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدَّواب والوحوش ، والوسطى للنَّاس ، والعليا للطيور ، ولها غطاء من فوق يطبق عليها .

قال ابنُ الخطيب{[18782]} - رحمه الله - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه ، ولما يحتاجون إليه ، ولحصول زوجين لكلّ حيوان ؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم .

قوله : " وَكُلَّمَا مَرَّ " العاملُ في " كُلَّمَا " " سَخِرَ " ، و " قَالَ " مستأنف ، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل . وقيل : بل العامل في " كُلَّما " " قال " ، و " سَخِرُوا " على هذا إمَّا صفة ل " مَلأ " ، وإمَّا بدلٌ مِنْ " مرَّ " ، وهو بعيدٌ جدّاً ، إذ ليس " سَخِرَ " نوعاً من المرور ، ولا هو هو فكيف يبدل منه ؟ والجملةُ من قوله " كُلَّما " إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ .

فصل

اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون ، فقيل : إنهم كانوا يقولون له : كنت تدَّعي الرسالة ، فصرت نجَّاراً . وقيل : كانوا يقولون : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق .

وقيل : إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها ، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل : إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة ، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً ، وكانوا يقولون له : ليس ههنا ماء ، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار ، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية .

وقيل : إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم ، وكان ينذرهم بالغرقِ ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل ، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة ، سخرُوا منه ، وكل هذه الوجوه محتملة .

ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي : مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة . وقيل : إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر ، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا .

فإن قيل : كيف تجُوزُ السخرية من النبي ؟ .

فالجوابُ : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب .

وقيل : معناه : إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم .

وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .


[18780]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/35).
[18781]:سقط في أ.
[18782]:ينظر: تفسير الفخر الرازي (17/79).