التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

وجاء التعبير بالفعل المضارع مع أن الصنع كان فى الماضى : استحضارا لصورة الصنع ، حتى لكأن نوحا - عليه السلام - يشاهد الآن وهو يصنعها .

ثم بين - سبحانه - موقف قومه منه وهو يصنعها وقال : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ . . . }

والسخرية : الاستهزاء . يقال : سخر فلان من فلان وسخر به ، إذا استخف به وضحك منه .

أى : امتثل نوح لأمر ربه ، فطفق يصنع الفلك ، فكان الكافرون من قومه كلما مروا به وهو يصنعها استهزأوا به ، وتعجبوا من حاله ، وقالوا له على سبيل التهكم به ، يا نوح صرت نجارا بعد أن كنت نبيا ، كما جاء فى بعض الآثار .

وهنا يرد عليهم نوح بقوله : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } .

أى قال نوح لهم : إن تسخروا منى ومن أتباعى اليوم لصنعنا السفينة ، وتستجهلوا منا هذا العمل ، فإنا سنسخر منكم فى الوقت القريب سخرية محققة فى مقابل سخريتكم الباطلة .

قال الإِمام الرازى : وقوله { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } فيه وجوه :

الأول : التقدير : إن تسخروا منا فى هذه الساعة فإنا نخسر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق فى الدنيا والخزى فى الآخرة .

الثانى : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسخرية منا .

الثالث : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم ، واستجهالكم أقبح وأشد ، لأنكم لا تستجهلون إلأا لاجل الجهل بحقيقة الأمر ، والاغترار بظاهر الحال ، كما هو عادة الأطفال .