فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

{ وَيَصْنَعُ الفلك } أي : وطفق يصنع الفلك ، أو وأخذ يصنع الفلك . وقيل : هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة ، وجملة : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } في محل نصب على الحال : أي استهزأوا به لعمله السفينة . قال الأخفش والكسائي : يقال سخرت به ومنه . وفي وجه سخريتهم منه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة ، فيقولون يا نوح صرت بعد النبوّة نجاراً . والثاني : أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة ، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ، قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله ، وسخروا به . ثم أجاب عليهم بقوله : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال لهم ؟ والمعنى : إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم ، فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق . ومعنى السخرية هنا : الاستجهال ، أي : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون ، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم ، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده ، والتشبيه في قوله : { كَمَا تَسْخَرُونَ } لمجرد التحقق والوقوع ، أو التجدّد والتكرّر ، والمعنى : إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك ، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك . وقيل معناه : نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق ، وفيه نظر ، فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية ، إذ هم في شغل شاغل عنها .

/خ44