فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

{ و } طفق { يصنع الفلك } أو أخذ أو أقبل يصنعها فاقتصر على يصنع وقيل هو حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة ، وأيا ما كان ففيه ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الآتية الواقعة حالا من ضميره ومكث في صنع السفينة مائتي سنة ذكره الصاوي وقيل أربعمائة سنة ذكره أبو السعود ، وقال ابن عباس : اتخذ نوح السفينة في سنتين وقيل ثلاثين سنة .

وكان طولها ثلاثمائة ذراع وسمكها في السماء ثلاثين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا والذراع على المنكب ، وكانت من خشب الساج لها ثلاثة بطون وأطباق سفلى ووسطى وعليا ، وكانت بابها في عرضها فحمل في أسفلها الدواب والوحش ، وفي أوسطها الإنس وفي أعلاها الطير ، وقيل السفلى للوحش والوسطى للطعام والعليا له ولمن آمن قال الخفاجي : والساج شجر عظيم يكثر بالهند وقيل إنه ورد في التوراة إنها من الصنوبر وقيل غير ذلك{[952]} .

{ وكلما مر عليه ملأ } أي جماعة { من قومه سخروا منه } كل ظرفية وما مصدرية ظرفية أي كل وقت مرور قوم استهزئوا به لعمله السفينة والجملة في محل نصب على الحال قال الأخفش والكسائي يقال سخرت به ومنه .

وفي وجه سخريتهم منه قولان ( أحدهما ) إنهم كانوا يرونه يعمل السفينة فيقولون : يا نوح صرت بعد النبوة نجارا ، وكان يصنعها في برية في أبعد موضع من الماء وفي وقت عزته عزة شديدة ( والثاني ) إنهم لما شاهدوه يعمل السفينة وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فتعجبوا من ذلك وقالوا : يا نوح ما تصنع بها .

{ قال } أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله وسخروا به ثم أجاب عليهم بقوله { إن تسخروا منا } وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال والمعنى أن تسخروا منا بسبب عملنا السفينة اليوم .

{ فإنا نسخر منكم } غدا عند الغرق ، ومعنى السخرية هنا الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم ، وهذا على سبيل المشاكلة إذ السخرية لا تليق بمقام الأنبياء وقيل إنه لجزائهم من جنس صنيعهم فلا يقبح { كما تسخرون } أي تستجهلون واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده والتشبيه لمجرد التحقيق والوقوع أو التجدد والتكرر .

والمعنى إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك وقيل معناه نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها ثم هددهم بقوله .


[952]:ليس على ما أورده المفسر من دليل صريح عن المعصوم فلا داعي إلى مثله.