قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال الكلبي والضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين ، يدل عليه قراءة ابن عباس : { وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون }( الاعراف-179 ) ، ثم قال في آية أخرى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } . وقال بعضهم : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : هم على ما عليه من الشقاوة والسعادة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { إلا ليعبدون } أي : إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي ، يؤيده قوله عز وجل : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً }( التوبة-31 ) . وقال مجاهد : إلا ليعرفوني . وهذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، دليله : قوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله }( الزخرف-87 ) . وقيل : معناه إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والانقياد ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه قدر ذرة من نفع ولا ضر . وقيل : ( إلا ليعبدون ) إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيجده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيجده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله عز وجل : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } ( العنكبوت-65 ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَما خَلَقْتُ الجِنّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ فقال بعضهم : معنى ذلك : وما خلقت السّعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم لمعصيتي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن زيد بن أسلم وَما خَلَقْتُ الجِنّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونَ قال : ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن زيد بن أسلم بنحوه .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا حُمَيد بن الربيع الخرّاز ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا ابن جُرَيج ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : وَما خَلَقْتُ الجِنّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ قال : جَبَلَهم على الشقاء والسعادة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَما خَلَقْتُ الجِنّ والإنْس إلاّ لِيَعْبُدُونَ قال : من خلق للعبادة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك . وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليُذْعِنوا لي بالعبودة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما خَلَقْتُ الجِنّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ : إلا ليقرّوا بالعبودة طوعا وكَرها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ، وهو : ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا ، والتذلل لأمرنا .
فإن قال قائل : فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره ؟ قيل : إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم ، لأن قضاءه جار عليهم ، لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم ، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به ، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه .
وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع ، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته ، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله : { ليعبدون } إذ العبادة هي مضمن الأمر ، وقال زيد بن أسلم وسفيان : المعنى خاص ، والمراد : { وما خلقت } الطائعين من { الجن والإنس } إلا لعبادتي ، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني » ، وقال ابن عباس أيضاً معنى : { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك ، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك . وتحتمل الآية ، أن يكون المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمة ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة ، وهذا كما تقول : البقر مخلوقة للحرث ، والخيل للحرب ، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً ، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة ، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك ، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له »{[10620]} . وقوله : «كل مولود يولد على الفطرة »{[10621]} والحديث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.