فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } مستأنفة مقررة لما قبلها لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير ، وينشطهم للإجابة ، قيل : هذا خاص فيمن سبق بعلم الله أنه يعبده ، فهو عموم مراد به الخصوص ، قال الواحدي : قال المفسرون هذا خاص لأهل طاعته ، يعني من أهل من الفريقين ، قال : وهذا قول الكلبي والضحاك ، واختيار الفراء وابن قتيبة .

قال القشيري : والآية دخلها التخصيص بالقطع ، لأن المجانين والصبيان لم يؤمروا بالعبادة ، ولا أرادها منهم ، وقد قال : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } ، ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة ، قاله شيخ الإسلام زكريا نقلا عن الرازي ، فالآية محمولة على المؤمنين منهم ، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب وابن مسعود ، وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون ، وقال مجاهد : إن المعنى إلا ليعرفوني قال الكلبي : وهذا قول حسن ، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ، وروي عن مجاهد أنه قال المعنى إلا لآمرهم ، وأنهاهم ، ويدل عليه قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } واختار هذا الزجاج .

وقال زيد بن أسلم : هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة ، وخلق الأشقياء للمعصية ، وقال الكلبي : المعنى إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة ، كما في قوله : { وإذا غشيهم قوج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين } ، وقال جماعة : إلا ليخضعوا لي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة الذل والخضوع والإنقياد ، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته ، منقاد لما قدره عليه ، خلقهم على ما أراد ، ورزقهم كما قضى لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا ، ووجه تقديم الجن على الإنس ههنا تقدم وجودهم ، قال ابن عباس في الآية : ليقروا بالعبودية طوعا أو كرها ، وعنه قال : على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي ، وشقوتي وسعادتي ، وقيل : معنى { إلا ليعبدون } إلا مستعدين لأن يعبدوا بأن خلقت فيهم العقل والحواس والقدرة التي تتحصل بها العبادة ، وهذا لا ينافي تخلف العبادة بالفعل من بعضهم ؛ لأن هذا البعض ، وإن لم يعبد الله ، لكن فيه التهيؤ والاستعداد الذي هو الغاية بالحقيقة وهذا أحسن .