السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

ولما بين حال من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى : { وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون } واختلف في تفسير ذلك فأكثر المفسرين على أن المراد بهم العموم ، ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأنّ الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به هكذا قال الجلال المحلي ، وأوضح منه ما قاله ابن عادل : إنّ المعنى إلا معدّين للعبادة ثم منهم من يتأتى منه ذلك ومنهم من لا ، كقولك : هذا القلم بريته للكتابة ثم قد لا تكتب به وقد تكتب انتهى أو إنّ المراد إلا لأمرهم بالعبادة وليقروا بها وهذا منقول عن عليّ بن أبي طالب ، أو إنّ المراد ليطيعوا وينقادوا لقضائي ، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر يفعل ذلك كرهاً ، أو أنّ المراد إلا ليوحدون فأمّا المؤمن فيوحد اختياراً في الشدّة والرخاء ، وأمّا الكافر فيوحد اضطراراً في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء . وقال مجاهد : معناه إلا ليعرفون قال البغوي : وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده بدليل قوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله } [ الزخرف : 87 ] وقيل : المراد به الخصوص أي : ما خلقت السعداء من الجنّ والأنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي . قال زيد بن أسلم : قال هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، ويؤيده قوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجنّ والإنس } [ الأعراف : 179 ] وقيل : وما خلقت الجنّ والإنس المؤمنين وقيل : الطائعين .

تنبيه : استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وأجيبوا بوجوه منها : أنّ اللام قد ثبتت لغير الغرض كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وقوله تعالى { فطلقوهنّ لعدّتهنّ } [ الطلاق : 1 ] ومعناه المقارنة فيكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة ومنها قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الرعد : 16 ] ومنها ما يدلّ على أنّ الإضلال بفعل الله كقوله تعالى { يضل من يشاء } [ الرعد : 27 ] وأمثاله ، ومنها قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] وقوله تعالى { يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] { ويحكم ما يريد } [ المائدة : 1 ]

فإن قيل : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلفين قال تعالى : { بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] وقال تعالى { لا يستكبرون عن عبادته } [ الأعراف : 206 ] أجيب بوجوه :

أحدها : أنّ الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجنّ والأنس ، لأنّ الكفر موجود فيهما دون الملائكة . ثانيها : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجنّ والإنس فلما قال تعالى : { وذكر } بين ما يذكر به ، وهو كون الخلق للعبادة وخصص أمّته بالذكر أي ذكر الجنّ والأنس ثالثها : أن عباد الأصنام كانوا يقولون إنّ الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله تعالى وخلقهم لعبادته ، ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله تعالى فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله تعالى كما قالوا { ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فقال تعالى : { وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون } ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم فذكر المنازع فيه . رابعها : فعل الجنّ يتناول الملائكة لأنّ أصل الجنّ من الاستتار وهم مستترون عن الخلق فذكر الجنّ لدخول الملائكة فيهم .