تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

الآية 56 وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ } إن كان المراد من ذكر العبادة حقيقة العبادة فيُخرّج تأويله على وجهين :

أحدهما : جوابا لمن لا يرى الجن والإنس يؤمرون بالعبادة ، ويُمتحنون بها ، فقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ما خلقتُهم على معرفة المحاسن والمساوئ والتمييز بين ما يُؤتى وما يُتّقى بما رُكّب فيهم من أسباب التمييز والمعرفة لأترُكهم سُدىً مهملين ، بل لأمتحنهم بالعبادة والقيام بشكر ما أنعمت عليهم من أنواع النّعم ؛ إذ الحكمة توجب ذلك ، وتدفع تركهم سدى هَمَلاً والله أعلم .

والثاني : يخرّج جوابا لمن يرى لعبادة دونه جائزة بقولهم : { ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زُلفى } [ الزمر : 3 ] فقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } لم أخلقهم لعبادة غيري ؛ بل{[19945]} لآمرهم بعبادتي ، لا لآمرهم بعبادة غيري كما قال بعض الكفرة بقولهم : { والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] ردّا ونقضا لاعتقادهم ، والله أعلم .

ثم قوله : { إلا ليعبدون } على حقيقة العبادة [ يحتمل ]{[19946]} وجهين :

أحدهما : على حقيقة فعل العبادة ، وعلى هذا الوجه لم تكن الآية محمولا بها على العموم ، بل على الخصوص ، وهم من الجن والإنس دون الكفرة منهم ، فإنه لا يجوز أن يخلُق الكفرة الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة ؛ إذ خلقُه عن اختيار وإرادة . فإذا خلقهم ، وأراد منهم العبادة ، لابدّ أن يوحّد [ بعض ]{[19947]} منهم ، وقد علم أنه يوحّد ، فيصير كأنه أراد تجهيل نفسه ، وهذا{[19948]} محال .

فدلّ أن المراد منه الخصوص ، وقد خصّ منه البعض بلا خلاف ؛ فإن الصغار والمجانين قد خُصّوا فإنه لا تتحقّق منهم العبادة . فجائز أن يخصّ منه الكفرة الذين علم أنهم لا يؤمنون ، والله أعلم .

[ والثاني ]{[19949]} : يحتمل أن المراد منه الأمر بالعبادة ، أي ما خلقتُهم إلا لآمركم بالعبادة والتوحيد . وهذا أقرب إلى العمل بالعموم ؛ فإنه يدخل فيه العقلاء من الجن والإنس دون الصغار والمجانين .

ويجوز أن يأمر بشيء /532-ب/ ولا يريد تحصيل المأمور به وصيرورة المأمور مطيعا له ، بل يريد أن يصير عاصيا ، فيُدخَل النار بخلاف ما إذا خلقه للعبادة وإرادة منه ، فلا يجوز ألا يوحّد ، وحقيقة هذا تُعرف في كتاب التوحيد أنه خلق للإيمان والعبادة من علم منه [ أنه يعبده ]{[19950]} ويختار العبادة له .

فأما من علم منه اختيار الضلال والغواية وصرف العبادة إلى غيره فإنه خلقه على علم منه أنه يختار ، ويفعل لقوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } الآية [ الأعراف : 179 ] .

وقال قائلون : لم يرد بقوله : { إلا ليعبدون } حقيقة العبادة التي هي فعل العبد على وجه الاختيار ، ولكن معناه : ما خلقت الجن والإنس إلا وقد جعلت في كل أحد منهم دلالة وحدانيتي ودلالة صرف العبادة إليّ والقيام بالشكر لي في ما أنعمت عليهم من أنواع النعم ما لو تأمّلوا فيها ، ونظروا لدلّهم على ما ذكرنا من العلم بالوحدانية لي والقيام بالعبادة والشكر ، والله أعلم .

وعلى هذا التأويل تكون الآية عامة ، لا خصوص فيها ، لأن خلقة كل أحد منهم على أيّ وصف كان دلالة ما ذكرنا ، والله الموفّق .

ويحتمل أيضا : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } إلا على خِلقة تصلُح للمحنة بالأمر والنهي والوعد والوعيد ولتحقيق فعل ذلك بما ركّبت فيهم العقل ، وجعلت مفاصلهم ليّنةً وقابلةً الأفعال ، تصلح للخدمة من الركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها على خلاف غير هؤلاء من المخلوقات ، فإنها خُلقت على خلقة تصلح لمنافع الممتحَنين لا على وجه يصلح للمحنة ، والله أعلم .

ثم في العبادة خصوصية معنى ، ليس ذلك في الطاعة والخدمة وغير ذلك من الأفعال كقوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] حين{[19951]} لم يُجز العبادة لغيره ، وأجاز الطاعة والخدمة والتعظيم وغير ذلك من الأفعال [ لرسوله ]{[19952]} لقوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } .

دلّ أن في العبادة معنى ليس ذلك المعنى في غيره ، لذلك وقعت الخصوصيّة له ، ولذلك خصّ نفسه بتسمية الإله ، ولم يُجِز التسمية به لغيره ، إذ الإله عنده معبود ، فكل معبود عندهم يسمّونه إلها ، وذلك كما خصّ نفسه بتسمية الرحمان ، لم يجعل تلك{[19953]} لغيره ، وأجاز{[19954]} تسمية غيره رحيما لما أن في اسم الرحمن زيادة معنى ليس في الرحيم ، وكذا خصّ نفسه بتسمية الخالق{[19955]} ، ولم يُجز هذا الاسم لغيره لما أن في الخالق معنى ، ليس ذلك المعنى في الفاعل وغيره ، فكذلك هذا ، والله أعلم .


[19945]:في الأصل وم: أو.
[19946]:ساقطة من الأصل وم.
[19947]:ساقطة في الأصل وم.
[19948]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: وعدا.
[19949]:في الأصل وم: و.
[19950]:في الأصل وم: أن يبعد.
[19951]:في الأصل وم: حيث.
[19952]:ساقطة من الأصل وم.
[19953]:في الأصل وم: لذلك.
[19954]:في الأصل وم: وجاز.
[19955]:في الأصل وم: خالقا.