معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

ويقال لهم : { ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر } يعني : ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ ، قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له .

أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أنبأنا مسلم بن غالب بن علي الرازي ، أنبأنا أبو معشر يعقوب بن عبد الجليل بن يعقوب ، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أنبأنا أحمد بن نصر النيسابوري ، أنبأنا عبد الله بن الوليد العدني ، أنبأنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال : جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية : { إن المجرمين في ضلال وسعر } إلى قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد شريك الشافعي الخدشاهي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجويدري ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وكان عرشه على الماء " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني قال : أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : كل شيء بقدر الله ، قال وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، أو الكيس والعجز " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أنبأنا أحمد بن حازم بن أبي عروة أنبأنا يعلى بن عبيد ، وعبد الله بن موسى وأبو نعيم عن سيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر زاد عبد الله خيره وشره " . ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال : عن ربعي عن علي ولم يقل : عن رجل ، وهذا أصح .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

وقوله : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ يقول تعالى ذكره : إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدّرناه وقضيناه ، وفي هذا بيان ، أن الله جلّ ثناؤه ، توعّد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، عن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أبيه ، عن ابن عباس أنه كان يقول : إني أجد في كتاب الله قوما يُسحبون في النار على وجوههم ، يقال لهم : ذُوقُوا مَسّ سَقَرَ لأنهم كانوا يكذّبون بالقَدَر ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء كان قبلنا ، أم شيء فيما بقي .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السّهْمِيّ ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هريرة أن مشركي قريش خاصمت النبيّ صلى الله عليه وسلم في القَدَر ، فأنزل الله إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى وأبو كُرَيب ، قالوا : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، قال : حدثنا سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السّهميّ ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القَدَر ، فنزلت إنّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، بنحوه .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، قال : «لما نزلت هذه الاَية إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو في شيء قد فرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ ، سَنَيَسّرُهُ للْيُسْرَى ، وَسَنَيْسّرُهُ للعُسْرَى » .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول : لما تكلم الناس في القَدَر نظرت ، فإذا هذه الاَية أنزلت فيهم إنّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . . . إلى قوله خَلَقْناهُ بقَدَرٍ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ويزيد بن هارون ، قالا : حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن محمد بن كعب ، قال : ما نزلت هذه الاَية إلاّ تعييرا لأهل القدر ذُوقُوا مَسّ سَقَرَ إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن محمد بن كعب القُرَظي ذُوقُوا مَسّ سَقَرَ قال : نزلت تعييرا لأهل القَدَر .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السّهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ .

قال : ثنا مهران ، عن حازم ، عن أُسامة ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ مثله .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال : خلق الله الخلق كلهم بقدر ، وخلق لهم الخير والشرّ بقدر ، فخير الخير السعادة ، وشرّ الشرّ الشقاء ، بئس الشرّ الشقاء .

واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فقال بعض نحويّي البصرة : نصب كلّ شيء في لغة من قال : عبد الله ضربته قال : وهي في كلام العرب كثير . قال : وقد رفعت كلّ في لغة من رفع ، ورفعت على وجه آخر . قال إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ فجعل خلقناه من صفة الشيء وقال غيره : إنما نصب كلّ لأن قوله خلقناه فعل ، لقوله «إنا » ، وهو أولى بالتقديم إليه من المفعول ، فلذلك اختير النصب ، وليس قيل عبد الله في قوله : عبد الله ضربته شيء هو أولى بالفعل ، وكذلك إنا طعامك ، أكلناه الاختيارُ النصب لأنك تريد : إنا أكلنا طعامك الأكل ، أولى بأنا من الطعام . قال : وأما قول من قال : خلقناه وصف للشيء فبعيد ، لأن المعنى : إنا خلقناه كلّ شيء بقدر ، وهذا القول الثاني أولى بالصواب عندي من الأوّل للعلل التي ذكرت لصاحبها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

واختلف الناس في قوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، فقرأ جمهور الناس : «إنا كلَّ » بالنصب ، والمعنى : خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، وليست { خلقناه } في موضع الصفة لشيء ، بل هو فعل دال على الفعل المضمر ، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق ، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات . وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح : «إنا كلُّ » بالرفع على الابتداء ، والخبر : { خلقناه بقدر } .

قال أبو حاتم : " هذا هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة " {[10790]} ، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع ، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق ، و : { خلقناه } على هذا ليست صفة لشيء ، وهذا مذهب أهل السنة ، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين{[10791]} ، وقالت القدرية وهم الذين يقولون : لا قدر ، والمرء فاعل وحده أفعاله-{[10792]} . القراءة «إنا كلُّ شيء خلقناه » برفع «كلُّ » : و { خلقناه } في موضع الصفة ب «كلَّ » ، أي أن أمرنا وشأننا كلُّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك ، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية .

وقال ابن عباس : إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ، ويقولون : المرء يخلق أفعاله ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي ؟ .

وقال أبو هريرة : خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية{[10793]} ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ؟ أم في شيء قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى »{[10794]} ، وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا ، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني »{[10795]} .


[10790]:يرجح أبو الفتح الرفع لأنه من مواضع الابتداء، فهو عنده كقولك: زيد ضربته، فـ"كل شيء خلقناه بقدر} جملة وقعت خبرا عن مبتدأ، ثم دخلت[إن] فنصبت الاسم وبقي الخبر على تركيبه الأصلي. وقد اختار محمد بن يزيد النصب، قال: التقدير: إنا فعلنا كذا، فالفعل منتظر بعد"إنا"، فلما دل ما قبله عليه حُسن إضماره، ورد أبو الفتح بأنه لا معنى لِتوقع الفعل؛ لأن أصل خبر المبتدإ أن يكون اسما، ومع ذلك فإن أبا الفتح ابن جني يقول إن الجماعة على قراءة النصب، ومما يقويها أن"إن" تطلب الفعل فهي أولى به، والنصب أدل على العموم في أن المخلوقات لله تعالى،ولو حذفت[خلقناه] المفسرة وأُظهرت المضمرة لصار الكلام: إنا خلقنا كل شيء بقدر، ولا يصح أن يكون[خلقناه] صفة لـ[شيء] لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.والخلاف في أساسه نحوي يرجع إلى الصناعة، والأفضل أن نختار ما يتفق مع المعنى الصحيح.
[10791]:يقولون: إن الله تعالى قدّر الأشياء بمعنى أنه علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث شيء إلا وهو صادر عن علمه سبحانه وعن قدرته وإرادته، والخَلق ليس لهم إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وحصل لهم ذلك بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله:{إنا كل شيء خلقناه بقدر}، فقالوا: يا محمد، يكتب علينا الذنب ويُعذبنا؟ فقال: أنتم خصماء الله يوم القيامة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت:{يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وخرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح، وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهم يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز).
[10792]:خرج ابن ماجه في سننه عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء والقدر)، وفي صحيح مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما تبرأ من القدرية، ولا يُتبرأ إلا من كافر.وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم).
[10793]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه من حديث وكيع عن سفيان الثوري.
[10794]:أخرجه ابن جرير الطبري، وأخرج مثله الإمام البخاري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فأخذ عودا فجعل ينكث في الأرض، فقال: ما منكم من أحد إلا كُتب مقعده من الجنة أو من النار، قالوا: ألا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر.{فأما من أعطى واتقى} الآية، ورواه مسلم بلفظ أطول من هذا، وكذلك رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقد أخرج أحمد مثله في مسنده عن أبي بكر رضي الله عنه.
[10795]:أخرجه النحاس عن أنس رضي الله عنه.