فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي : كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبسا بقدر قدره ، وقضاء قضاه ، سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، والقدر التقدير ، والعامة على نصب كل بالاشتغال ، وقرئ بالرفع وقد رجح الناس النصب بل أوجبه بعضهم ، قال : لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة ، وقال أبو البقاء : وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق ، والرفع لا يدل على عمومه . بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر ، وإنما دل نصب كل على العموم ، لأن التقدير : إنا خلقنا كل شيء بقدر ، فخلقناه تأكيد ، وتفسير لخلقنا المضمر الناصب لكل شيء فهذا لفظ عام يعم جميع المخلوقات ، وللسمين هنا كلام مبسوط لا نطول بذكره .

أخرج مسلم :

عن " ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " ، وعن " عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " {[1553]} . أخرجه مسلم .

وعن " جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمر أحدكم حتى يؤمن بالقدر " ، أخرجه الترمذي واستغربه وفي الباب أحاديث بين صحيح منها وضعيف ، قال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد ، وقهره على ما قدره وقضاه ، وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من أكساب العباد ، وصدورها عن تقدير منه ، وخلق لها خيرها وشرها ؛ والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر ، يقال قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله : { فقضاهن سبع سموات } أي خلقهن .

قال النووي : إن مذهب أهل الحق إثبات القدر ، ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم ، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه على صفات مخصوصة ، فهي تقع على حسب ما قدرها الله ، وأنكرت القدرية هذا ، وزعمت أنه سبحانه لم يقدرها ، ولم يتقدم علمه بها ، وأنها مستأنفة العلم ، أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها ، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا انتهى .

وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، وأهل العقد والحل من السلف والخلف ، على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى ، وقد قرر ذلك أئمة السنة أحسن تقرير ، بدلائله القطعية ، السمعية والعقلية ، ليس هذا موضع بسطه ، والله تعالى أعلم .


[1553]:رواه مسلم.