في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة ، وإلى القوم خاصة . ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره . .

إن ذلك الأخذ في الدنيا ، وهذا العذاب في الآخرة . وما كان قبلهما من رسالات ونذر ، ومن قرآن وزبر . وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود . .

إن ذلك كله ، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر ، مصرفة بقصد ، مدبرة بحكمة . لا شيء جزاف . لا شيء عبث . لا شيء مصادفة . لا شيء ارتجال :

( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) .

كل شيء . . كل صغير وكل كبير . كل ناطق وكل صامت . كل متحرك وكل ساكن . كل ماض وكل حاضر . كل معلوم وكل مجهول . كل شيء . . خلقناه بقدر . .

قدر يحدد حقيقته . ويحدد صفته . ويحدد مقداره . ويحدد زمانه . ويحدد مكانه . ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء . وتأثيره في كيان هذا الوجود .

وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة ، مصداقها هذا الوجود كله . حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، ويتجاوب معه ، ويتلقى عنه ، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقا دقيقا . كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق ، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود .

ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل ، ويطيقه العقل البشري ، ويملك معرفته عن هذا الطريق . ووراء هذا القدر يبقى دائما ما هو أعظم وأكمل ، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها ، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق المخلوق كل شيء فيه بقدر .

ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة ، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيئة له . . وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد ؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها . فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها . . ثم يتحقق هذا الذي فرضوه . ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام ، في هذا الفضاء الهائل ، بهذه النسب المقدرة ، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب !

ووصل في إدراك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها ، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يودي بهذه الحياة كلها ، أو لا يسمح أصلا بقيامها . فحجم هذه الأرض ، وكتلتها ، وبعدها عن الشمس . وكتلة هذه الشمس ، ودرجة حرارتها . وميل الأرض على محورها بهذا القدر ، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس . وبعد القمر عن الأرض . وحجمه وكتلته . وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض . . . إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديرا ، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء ؛ ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض !

ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط التي تضبط الحياة ؛ وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها ؛ وبين بعضها وبعض . . إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية . فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء وعوامل الموت والفناء في البيئة وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائما بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها . وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف المهيأة للأحياء ، في وقت ما ، لإعالتهم وإعاشتهم !

ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض . إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون ، وفي ظروف الأرض . .

" إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ، لأنها قليلة البيض ، قليلة التفريخ ، فضلا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة . وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار . ولو كانت مع عمرها الطويل ، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن ، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها . أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان ، وللقيام بأدوارها الأخرى ، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض !

بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مقلات نزور

وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا ، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث !

والذبابة تبيض ملايين البويضات . ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين . ولو كانت تعيش بضعة أعوام ، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه ؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض . ولكن عجلة التوازن التي لا تختل ، في يد القدرة التي تدبر هذا الكون ، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه !

والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددا ، وأسرعها تكاثرا ، وأشدها فتكا - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرا . تموت بملايين الملايين من البرد ، ومن الحر ، ومن الضوء ، ومن أحماض المعدات ، ومن أمصال الدم ، ومن عوامل أخرى كثيرة . ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان . ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء !

وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء . وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع . فكثرة العدد سلاح . وقوة البطش سلاح . وبينهما ألوان وأنواع . .

الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها . والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل ، ومن ثم يندر فيها السام !

والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة ، تصبها على كل من يلمسها ، وقاية من الأعداء !

والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز ، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس !

وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء .

وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه ، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام . . الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء . .

البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها ! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه ، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله ، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء اليه بما قد يؤذيه " .

" والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلا أبيض مائلا إلى الاصفرار . ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض . وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين . ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوما بعد يوم ، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة ، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات . ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل ؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوناته ، وتتركز مواده ، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر ، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى ، بل يوما بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو " .

وتتبع الأجهزة المختلفة في تكوين الإنسان ، ووظائفها ، وطريقة عملها ، ودور كل منها في المحافظة على حياته وصحته . . يكشف عن العجب العجاب في دقة التقدير وكمال التدبير . ويرينا يد الله وهي تدبر أمر كل فرد . بل كل عضو . بل كل خلية من خلاياه . وعين الله عليه تكلؤه وترعاه . ولن نستطيع هنا أن نفصل هذه العجائب فنكتفي بإشارة سريعة إلى التقدير الدقيق في جهاز واحد من هذه الأجهزة . جهاز الغدد الصم " تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتركيبات الكيماوية الضرورية ، والتي يبلغ من قوتها أن جزءا من ألف بليون جزء منها تحدث آثارا خطيرة في جسم الإنسان . وهي مرتبة بحيث أن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى . وكل ما كان يعرف عن هذه الإفرازات أنها معقدة التركيب تعقيدا مدهشا ، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفا عاما في الجسم ، يبلغ حد الخطورة . إذا دام هذا الاختلال وقتا قصيرا .

أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته . .

" زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع ، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة ، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها ، والتغلب عليها ، بأنياب قاطعة ، وأسنان حادة ، وأضراس صلبة . ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها ، فلأرجلها عضلات قوية ، سلحت بأظافر ومخالب حادة ، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام .

فأما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي ، فهي تختلف فيما زودت به .

" وقد صممت أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة ، فأفواهها واسعة نسبيا ؛ وقد تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة . وبدلا منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاصمة قاطعة ؛ فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة ، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة ، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات . وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة للهضم ، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش ، وهو مخزن له ، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة ، يذهب الطعام إلى تجويف يسمى [ القلنسوة ] . ثم يرجع إلى الفم ، فيمضغ ثانية مضغا جيدا ، حيث يذهب إلى تجويف ثالث يسمى [ أم التلافيف ] ، ثم إلى رابع يسمى [ الإنفحة ] وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان ، إذ كثيرا ما يكون هدفا لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي ، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي . ويقول العلم إن عملية الاجترار ضرورية بل وحيوية ، إذ أن العشب من النباتات العسرة الهضم ، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية ، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جدا ، فلو لم يكن مجترا ، وبمعدته مخزن خاص ، لضاع وقت طويل في الرعي ، يكاد يكون يوما بأكمله ، دون أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء ، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ . إنما سرعة الأكل ، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئا من التخمر ، ليبدأ المضغ والطحن والبلع ، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وغذاء وحسن هضم . فسبحان المدبر .

والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم . بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة ، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء . وعلى جانب المنقارزوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش .

أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض . بينما منقار البجعة مثلا طويل طولا ملحوظا ، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد . إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي .

ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب ، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان ، التي غالبا ما تكون تحت سطح الأرض . ويقول العلم : إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره .

أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب . فلما لم يعط أسنانا فقد خلقت له حوصلة وقانصة تهضم الطعام . ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام .

ويطول بنا الاستعراض ، ونخرج على منهج هذه الظلال ، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو ، فنسرع الخطى إلى [ الإميبا ] وهي ذات الخلية الواحدة ، لنرى يد الله معها ، وعينه عليها ، وهو يقدر لها أمرها تقديرا .

[ والإميبا كائن حي دقيق الحجم . يعيش في البرك والمستنقعات ، أو على الأحجار الراسبة في القاع . ولا يرى بالعين إطلاقا . وهو يرى بالمجاهر ، كتلة هلامية ، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات . فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد ، تستعملها كالأقدام ، للسير بها إلى المكان المرغوب . ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة . وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين ، وتفرز عليه عصارة هاضمة ، فتتغذى بالمفيد منها ، أما الباقي فتطرده من جسمها ! وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء . . فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين ، يعيش ويتحرك ، ويتغذى ويتنفس ، ويخرج فضلاته ! فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين ، ليكون كل قسم حيوانا جديدا ] . .

وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء . ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .

على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير . إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها . كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد ، ككل نفس يخرج من صدر ! إن هذا النفس مقدر في وقته ، مقدر في مكانه ، مقدر في ظروفه كلها ، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون ، محسوب حسابه في التناسق الكوني ، كالأحداث العظام الضخام !

وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء . . إنه هو الآخر قائم هناك بقدر . وهو يؤدي وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان ! وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة . وهذه الخلية السابحة في الماء . كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء !

تقدير في الزمان ، وتقدير في المكان ، وتقدير في المقدار ، وتقدير في الصورة . وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال .

من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه ، لم يكن حادثا شخصيا فرديا . . إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه ، فيأخذوه فيلقوه في الجب - ولا يقتلوه - لتلتقطه السيارة . لتبيعه . في مصر . لينشأ في قصر العزيز . لتراوده امرأة العزيز عن نفسه . ليستعلي على الإغراء . ليلقى في السجن . . لماذا ? ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك . ليفسر لهما الرؤيا . . لماذا ? إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب ! ويقف ناس من الناس يسألون : لماذا ? لماذا يا رب يتعذب يوسف ? لماذا يا رب يتعذب يعقوب ? لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن ? ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم ، المنوع الأشكال ? لماذا ? . . ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب ، لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة ! ثم ماذا ? ثم ليستقدم أبويه وإخوته . ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل . ليضطهدهم فرعون . لينشأ من بينهم موسى - وما صاحب حياته من تقدير وتدبير - لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته ! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه !

ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثا شخصيا فرديا . إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر ، ليأخذ منها هاجر ، لتلد له إسماعيل . ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم . لينشأ محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من نسل إبراهيم - عليه السلام - في هذه الجزيرة . أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام . . ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام !

إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد . لكل حادث . ولكل نشأة . ولكل مصير . ووراء كل نقطة ، وكل خطوة ، وكل تبديل أو تغيير .

إنه قدر الله النافذ ، الشامل ، الدقيق ، العميق .

وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد . وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير ، فتخفى عليهم حكمة التدبير . فيستعجلون ويقترحون . وقد يسخطون . أو يتطاولون !

والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر ، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق ، وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق . .