قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } العامة على نصب «كل » على الاشتغال . وأبو السَّمَّالِ بالرفع{[54183]} وقد رجح الناس - بل بعضُهُمْ أَوْجَبَ - النَّصَب ، قال : لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة ، وذلك أنه إذا رفع : «كل شيء » كان مبتدأ ، و«خلقناه » صفة ل «كُلّ » أو «شَيْء » و«بِقَدَرٍ » خبره{[54184]} .
وحيئنذ يكون له مفهومٌ لا يخفى على مُتَأَمِّلِهِ ، فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بقدر كذا قدره بعضهم . وقال أبو البقاء : وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق ، والرفع لا يدل على عمومية بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر{[54185]} .
وقال مكي بن أبي طالب : كان الاختيار على أصول البصريين رفع «كُلّ » كما أن الاختيار عندهم في قولك{[54186]} : «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ » الرفع والاختيار عند الكوفيين النصب فيه بخلاف{[54187]} قولنا : زَيْد أَكْرَمْتُهُ ، لأنه قد تقدم في الآية شيء عمل{[54188]} فيما بعده وهو «إنَّ » . والاختيار{[54189]} عندهم النصب فيه . وقد أجمع القراء على النصب في ( كُلَّ ) على الاختيار فيه عند الكوفيين ليدل{[54190]} ذلك على عموم الأشياء المخلوقات أنها لله تعالى{[54191]} بخلاف ما قاله أهلُ الزَّيْغِ من أن ثَمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى . وإنما دل النصب في «كل » على العموم ، لأن التقدير : إنّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر «فخلقناه » تأكيد وتفسير «لخَلَقْنَا » المضمر الناصب ل «كُلَّ شَيْءٍ »{[54192]} فهذا لفظ عام يَعُمُّ جميع المخلوقات .
ولا يجوز أن يكون «خَلَقْنَاهُ » صفة ل «شَيْءٍ » ؛ لأن الصفة والصلة لا يعملان قبل فيما قبل الموصوف ولا الموصول ، ولا يكونان تفسيراً لما يعمل فيما قبلهُما ، فإذا لم يبق «خَلَقْنَاهُ » صفة لم يبق إلا أنَّه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر الناصب وذلك يدل على العموم .
وأيضاً فإن النصب هو الاختيار{[54193]} ؛ ( لأن{[54194]} «إنَّا » عندهم تطلب الفعل ، فهُو{[54195]} أولى به فالنصب عندهم في «كل » هو الاختيار ) فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج{[54196]} عن الشبه كان النصب أولى{[54197]} من الرفع{[54198]} .
وقال ابن عطيه وقومٌ من أهل السنة : بالرفع{[54199]} . قال أبو الفتح : هو الوجهُ في العربية{[54200]} وقراءتنا بالنصب مع الجماعة{[54201]} .
وقال الزمخشري : كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر .
وقرئ : كُلُّ شَيْءٍ بالرفع . والقَدَرُ والقَدْرُ : التقديرُ{[54202]} . وقرئ بهما أي خَلَقْنَا كل شيء مقدَّراً محكماً مرتباً على حَسْب ما اقتضته الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه انتهى .
وهو هنا يتعصب للمعتزلة لضعْف وجه الرفع .
وقال قومٌ : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يَصْلُحُ للخبر وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر اختار النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف . ومنه هذا الموضع ، لأن قراءة الرفع تخيل أن النصب{[54203]} وصف وأن الخبر : «بَقَدَرٍ »{[54204]} .
وقد تنازع أهل السنة والقدرية في الاستدلال بهذه الآية ، فأهل السنة يقولون : كُلّ شيء مخلوق لله تعالى ، ودليلهم قراءة النصب ؛ لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رفع الأول على الابتداء .
وقال القَدَريَّة : القراءة برفع «كل » و«خَلَقْنَاهُ » في موضع الصفة ل «كُلّ » أي أمْرُنَا أو شَأْنُنَا كُلُّ شيء خَلَقْنَاه فهو بقدر أو بمقدار . وعلى حد ما في{[54205]} هيئَتِهِ وزمنِهِ ( وَغيْرِ ذَلِكَ ) {[54206]} .
وقال بعض العلماء في القدر هنا وجوه :
أحدها : أنه المقدار في ذاته وفي صفاته .
الثاني : ( أنه ) التقدير لقوله : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 23 ] وقال الشاعر :
4614{[54207]}- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَقَدْ قَدَرَ الرحمان مَا هُوَ قَادِرُ{[54208]}
الثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، كقولك : كَان بِقَضَاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ ، فقوله : ( بقَدَرٍ ) على قراءة الناصب متعلق بالفعل الناصب{[54209]} ، وفي قراءة الرفع في محلّ رفع ، لأنه خبرٌ ل «كُلّ » و«كُلّ » وخبرها في محل رفع خبر «لإِنَّ » . وسيأتي قريباً أنه عكس هذه ؛ أعني في اختيار الرفع وهي{[54210]} قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر }{[54211]} [ القمر : 52 ] ، فإنه يختلف في رفعه ، قالوا : لأن نَصْبَه يؤدي إلى فساد المعنى لأن الواقع خلافه ، وذلك أنك لو نصبته لكان التقدير : فَعلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الزُّبُرِ . وهو خلافُ الواقع ، إذ في الزبر أشياء كثيرة جداً لم يَفْعَلُوها . وأما قراءة الرفع فتؤدي إلى أن كل شيء فعلوه هو ثابتٌ في الزُّبُرِ . وهو المقصود فلذلك اتفق على رَفْعِهِ .
وهذان الموضعان من نُكَت المسائل الغَريبة التي اتُّفِقَ مجيئُها في سورة واحدةٍ ومَكَانَيْن مُتَقَارِبَيْن ، ومما يدل على جلالة علم الإعراب وإفهامِهِ المعانيَ الغَامِضَة .
قال أهل السنة : إن الله تعالى قدر الأشياء أَيْ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادرٌ عن علمِهِ تعالى وقدرتِهِ وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوعُ اكتساب ومحاولةٍ ونسبةٍ وإضافةٍ ، وأن ذلك كله إنما جُعِلَ لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ولا خالقَ غيره كما نص عليه القرآن والسنة . لا كما قال القَدَريَّة وغيرهمُ من أن الأعمال إلينا ، والآجال بيد غَيرِنا .
قال أبو ذرٍّ : «قَدِمَ وَفْد نَجْرَانَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرِنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فقالوا يا محمد : يكتب علينا الذنب ويعذبنا ؟ فقال : أنتم خصماء الله يَوْمَ القيامة » .
روى أبو الزُّبَيْر عن جابرِ بنِ عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ المُكَذِّبُونَ لِقَدَر اللَّهِ{[54212]} ، إنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُم وإنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُم وإنْ لَقِيتُمُوهم فَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ » . أخرجه ابن ماجه في سننه . وخرج أيضاً عن ابن عباس وجابر قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لهم في الإِسْلاَم نَصِيبٌ أَهْلُ الإرْجَاء والقَدَر » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.