الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } : العامَّةُ على نصب " كل " على الاشتغال وأبو السَّمَّال بالرفع . وقد رَجَّحَ الناسُ ، بل بعضُهم أوجبَ النصبَ قال : لأن الرفعَ يُوْهِمُ ما لا يجوزُ على قواعد أهل السُّنَّة . وذلك أنه إذا رُفع " كل شيء " كان مبتدأً " وخَلَقْناه " صفةٌ ل " كل " أو لشيء . و " بقَدَر " خبرهُ . وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يَخْفَى على متأمِّله ، فيلزَمُ أن يكون الشيءُ الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بَقَدَر ، كذا قَدَّره بعضُهم . وقال أبو البقاء : " وإنما كان النصبُ أَوْلى لدلالتِه على عموم الخَلْقِ ، والرفعُ لا يدلُّ على عمومِه ، بل يُفيد أنَّ كل شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدر " . وقال مكي بن أبي طالب : " كان الاختيارُ على أصول البَصْريين رفع " كل " كما أن الاختيارَ عندهم في قولك " زيدٌ ضربْتُه " الرفعُ ، والاختيارُ عند الكوفيين النصبُ فيه بخلاف قولِنا " زيد أكرمتُه " لأنه قد تقدَّم في الآية شيءٌ عَمِل فيما بعده وهو " إنَّ " والاختيارُ عندهم النصبُ فيه . وقد أجمع القرّاءُ على النصبِ ف " كل " على الاختيار فيه عند الكوفيين لِيَدُلُّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقاتِ أنها لله تعالى بخلافِ ما قاله أهلُ الزَيْغِ مِنْ أنَّ ثمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى ، وإنما دلَّ النصبُ في " كلَّ " على العموم ؛ لأن التقديرَ : إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيء خَلَقْناه بَقَدَر ، فَخَلَقْناه تأكيدٌ وتفسيرٌ ل " خَلَقْنا " المضمر الناصبِ ل " كلَّ " . وإذا حَذَفْتَه وأَظْهَرْت الأولَ صار التقديرُ : إنَّا خَلَقْناه كلَّ شيءٍ بَقدَر ، فهذا لفظٌ عامٌ يَعُمُّ جميع المخلوقاتِ . ولا يجوز أَنْ يكون " خَلَقْناه " صفةً ل " شيءٍ " لأنَّ الصفةَ والصلةَ لا يعملان فيما قبل الموصوفِ ولا الموصولِ ، ولا يكونان تفسيراً لِما يعملُ فيما قبلهما ، فإذا لم يَبْقَ " خَلَقْناه " صفةً لم يَبْقَ إلاَّ أنه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النصب ، وذلك يَدُلُّ على العموم . وأيضاً فإن النصبَ هو الاختيارُ لأنَّ " إنَّا " عندهم يَطلبُ الفعلَ فهو أَوْلى به ، فالنصبُ عندهم في " كل " هو الاختيارُ ، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشُبَهِ كان النصبُ أَوْلى من الرفع " .

وقال ابن عطية :/ " وقومٌ من أهلِ السُّنَّة بالرفع " . وقال أبو الفتح : " هو الوجهُ في العربية ، وقراءتُنا بالنصب مع الجماعة " . وقال الزمخشري : " كلَّ شيء " منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره الظاهرُ . وقُرِىء " كلُّ شيءٍ " بالرفع . والقَدْر والقَدَر : التقديرُ ، وقُرِىء بهما ، أي : خَلَقْنا كلَّ شيء مُقَدَّراً مُحْكَماً مُرَتَّباً على حَسَبِ ما اقْتَضَتْه الحكمةُ أو مُقَدَّراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونِه قد عَلِمْنا حاله وزمانَه " انتهى .

وهو هنا لم يَتَعَصَّبْ للمعتزلةِ لضعفِ وجهِ الرفع .

وقال قومٌ : إذا كان الفعل يُتَوَهَّمُ فيه الوصفُ وأنَّ ما بعدَه يَصْلُحُ للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعلُ هو الخبرَ اختير النصبُ في الاسمِ الأولِ حتى يتضحَ أنَّ الفعل ليس بوصفٍ ، ومنه هذا الموضعُ ؛ لأنَّ قراءة الرفع تُخَيِّل أنَّ الفعلَ وصفٌ ، وأن الخبرَ " بقدَر " . وقد تنازع أهلُ السنة والقَدَرِيَّة الاستدلال بهذه الآية : فأهلُ السُّنَّة يقولون : كلُّ شيء مخلوقٌ لله تعالى بقَدَرٍ ، ودليلُهم قراءة النصبِ لأنه لا يُفَسَّر في هذا التركيب إلاَّ ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رُفِع الأولُ على الابتداء . وقال القَدَرية : القَراءةُ برفع " كل " و " خَلَقْناه " في موضع الصفة ل " كل " ، أي : إنَّ أمْرَنا أو شأنَنا : كلُّ شيء خَلَقْناه فهو بَقَدر أو بمقدار ، وعلى حَدِّ ما في هيئتهِ وزمنِه .

وقال بعضُ العلماء : في القَدَر هنا وجوهٌ ، أحدها : أنه المقدارُ في ذاتِه وفي صفاته . والثاني : التقديرُ كقولِهِ

{ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [ المرسلات : 23 ] . وقال الشاعر :

4168 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقَد قَدَّر الرحمنُ ما هو قادِرُ

أي : ما هو مُقَدَّر . والثالث : القَدَرُ الذي يُقال مع القضاء كقولِكَ : كان بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه فقوله " بقَدَرٍ " على قراءة النصب متعلِّقٌ بالفعل الناصب وفي قراءةِ الرفع في محلِّ رفع ، لأنه خبرٌ ل " كل " و " كل " وخبرُها في محل رفع خبراً ل إنَّ .