قوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } . الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا : شديدا ، قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : أما أنا فقد رضيت بالله رباً ، وبمحمد نبياً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخواناً ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أصبتما الخير وأفلحتما فأنزل الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود .
قوله تعالى : { لو يردونكم } . يا معشر المؤمنين .
قوله تعالى : { من بعد إيمانكم كفاراً حسداً } . نصب على المصدر ، أي يحسدونكم حسداً .
قوله تعالى : { من عند أنفسهم } . أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بذلك .
قوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم الحق } . في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم صدق ودينه حق .
قوله تعالى : { فاعفوا } . فاتركوا .
قوله تعالى : { واصفحوا } . وتجاوزوا ، فالعفو : المحو ، والصفح : الإعراض ، وكان هذا قبل آية القتال .
قوله تعالى : { حتى يأتي الله بأمره } . بعذابه : القتل والسبي لبني قريظة ، والجلاء والنفي لبني النضير ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما : وقال قتادة : هو أمره بقتالهم في قوله ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) إلى قوله :{ وهم صاغرون } وقال ابن كيسان : بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ، ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية .
{ وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتّىَ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قال أبو جعفر : وقد صرّح هذا القول من قول الله جل ثناؤه ، بأن خطابه بجميع هذه الاَيات من قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تقولوا رَاعِنا } وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إنما هو خطاب منه للمؤمنين وأصحابه ، وعتاب منه لهم ، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم ، ودليل على أنهم كانوا استعملوا ، أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء ، وما لم يكن له استعماله معه ، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم . فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك : لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود : «راعنا » تأسيا منكم بهم ، ولكن قولوا : «انظرنا واسمعوا » ، فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي وجحود لحقّي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره ، ولمن كفر بي عذاب أليم فإن اليهود والمشركين ما يودّون أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، ولكن كثيرا منهم ودّوا أنهم يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، من بعدما تبين لهم الحقّ في أمر محمد وأنه نبيّ إليهم وإلى خلقي كافة . وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ } كعب بن الأشرف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ } هو كعب بن الأشرف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان العمري ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ }قال كعب بن الأشرف . وقال بعضهم بما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق . وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان حُيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ } الآية .
وليس لقول القائل عَنَى بقوله : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ كعب بن الأشرف معنى مفهوم لأن كعب بن الأشرف واحد ، وقد أخبر الله جلّ ثناؤه أن كثيرا منهم يودّون لو يردّون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم . والواحد لا يقال له كثير بمعنى الكثرة في العدد ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية الكثرة في العزّ ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته ، كما يقال : فلان في الناس كثير ، يراد به كثرة المنزلة والقدر . فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة ، فقال : { لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارا حَسَدا } فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد . أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة ، والمقصود بالخبر عنه الواحد ، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل فيكون ذلك أيضا خطأ ، وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى فلا بد من دلالة فيه تدلّ على أن ذلك معناه ، ولا دلالة تدلّ في قوله : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة ، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال .
القول في تأويل قوله تعالى : حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ .
ويعني جل ثناؤه بقوله : { حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ } أن كثيرا من أهل الكتاب يودّون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم من الردّة عن إيمانهم إلى الكفر حسدا منهم وبغيا عليهم . والحسد إذا منصوب على غير النعت للكفار ، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر ، كقول القائل لغيره : تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك . فيكون الحسن مصدرا من معنى قوله : تمنيت من السوء لأن في قوله تمنيت لك ذلك ، معنى حسدتك على ذلك . فعلى هذا نصب الحسد ، لأن في قوله : { وَدّ كَثِير مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانكُمْ كُفّارا } يعني : حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق ، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله ، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلاً منكم رءوفا بكم رحيما ، ولم يجعله منهم ، فتكونوا لهم تبعا . فكان قوله : حَسَدا مصدرا من ذلك المعنى .
وأما قوله : { مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ } فإنه يعني بذلك : من قِبَلِ أنفسهم ، كما يقول القائل : لي عندك كذا وكذا ، بمعنى : لي قِبَلك . وكما :
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ( عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ) قوله : { مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ } قال : من قبل أنفسهم .
وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين من عند أنفسهم إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم ، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لهُمُ الحَقّ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب الذين يودّون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم الحقّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه والملة التي دعا إليها فأضاء لهم أن ذلك الحقّ الذي لا يمترون فيه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإسلامَ دينُ الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } يقول : تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله وزاد فيه : فكفروا به حسدا وبغيا ، إذْ كان من غيرهم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } قال : الحقّ : هو محمد صلى الله عليه وسلم فتبين لهم أنه هو الرسول .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } قال : قد تبين لهم أنه رسول الله .
قال أبو جعفر : فدلّ بقوله ذلك أن كُفْرَ الذين قصّ قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله عنادٌ ، وعلى علم منهم ومعرفة ، بأنهم على الله مفترون . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } يقول الله تعالى ذكره : من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحد . فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشدّ الملامة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاعْفُوا وَاصْفَحُوا } حتى يَأتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : فاعْفُوا فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم ، إرادةَ صَدّكم عنه ، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم ، وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم : اسْمَعْ غَيْر مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره ، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء ، ويقضي فيهم ما يريد . فقضى فيهم تعالى ذكره ، وأتى بأمره ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به : { قاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ ، وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكتاب حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم على المؤمنين حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة ، أو يؤدّوا الجزية عن يد صَغَارا . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله :
{ فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ إنّ اللّهَ على كلّ شَيْءٍ قَدِير } ونسخ ذلك قوله : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يأتِي اللّهُ بأمْرِهِ } فأتى الله بأمره فقال : { قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ } حتى بلغ : { وهُمْ صَاغِرُونَ } أي صَغَارا ونقمة لهم فنسخت هذه الآية ما كان قبلها : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ } قال : اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا . فأحدث الله بعد فقال : { قَاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ } إلى : { وهُمْ صَاغِرُونَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ } قال : نسختها : { اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يَأتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ } قال : هذا منسوخ ، نَسَخَه : { قاتِلُوا الذين لا يُؤمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ الله على كُلّ شيْءٍ قَدِير } .
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى القدير وأنه القويّ . فمعنى الآية ههنا : أن الله على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قديرٌ ، إن شاء الانتقام منهم بعنادهم ربهم وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان ، لا يتعذّر عليه شيء أراده ولا يتعذّر عليه أمر شاء قضاءه لأن له الخلق والأمر .
{ ود كثير من أهل الكتاب } يعني أحبارهم . { لو يردونكم } أن يردوكم ، فإن لو تنوب عن إن في المعنى دون اللفظ : { من بعد إيمانكم كفارا } مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين { حسدا } علة ود . { من عند أنفسهم } يجوز أن يتعلق بود ، أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم { من بعد ما تبين لهم الحق } بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة { فاعفوا واصفحوا } العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك تثريبه . { حتى يأتي الله بأمره } الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم ، أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ، وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على الانتقام منهم .
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم ، وآخرتها شبهة النسخ ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر . وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله : { ما ننسخ } [ البقرة : 106 ] الآيات للوجوه المتقدمة ، فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها . وفي « تفسير ابن عطية » و« الكشاف » و« أسباب النزول » للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس{[156]} وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار : « ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم » فردا عليهم وثبتا على الإسلام .
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعاً فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا ، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمني الكفر وهو رضي به . وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير بـِِ { يردونكم } دون لو كفرتم ليشار إلى أن ودادتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية . وبه يظهر وجه مجيء { كفاراً } معمولاً لمعمول { ود كثير } ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفاراً بالله أي كفارا كفراً متفقاً عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صْدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه ، وبه يظهر أيضاً وجه قوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم الحق } فإنه تبيُّنُ أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك ، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم .
و { لو } هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر .
و { حسداً } حال من ضمير { وَدَّ } أي إن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر .
وقوله : { من عند أنفسهم } جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم . وأُكد ذلك بكلمة ( عند ) الدالةِ على الاستقرار ليزداد بيانُ تمكنه وهو متعلق بحسداً لا بقوله : { ود } .
وإنّما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكى عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى : { وكره إليكم الكفر } [ الحجرات : 7 ] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيراً للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل .
والعفو ترك عقوبة المذنب . والصفح بفتح الصاد مصدر صفح صفحاً إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيءٍ ولاه من صفحة وجهه ، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفاً من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق .
وقوله : { حتى يأتي الله بأمره } أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة ، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية .
والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطميناً لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلاً وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ، ومن ذلك إجلاء بني النضير .
ولعل في قوله : { إن الله على كل شيء قدير } تعليماً للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له نداً وهو يرزقهم " ، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل : إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية . فجملة { إن الله على كل شيء قدير } تذييل مسوق مساق التعليل ، وجملة { فاعفوا واصفحوا } إلى قوله : { وقالوا لن يدخل } [ البقرة : 111 ] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلاً وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضاً . وقد جوزه صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } في سورة النحل ( 43 ) ، وجوزه ابن هشام في « مغني اللبيب » واحتج له بقوله تعالى : { فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس ( 11 ، 13 ) { إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة } أنه قال لا يصح أن تكون جملة { فمن شاء ذكره } اعتراضاً لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب « الكشاف » بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقد صرّح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تقولوا رَاعِنا} وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما هو خطاب منه للمؤمنين وأصحابه، وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم، ودليل على أنهم كانوا استعملوا، أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود: «راعنا» تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا: «انظرنا واسمعوا»، فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي وجحود لحقّي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم فإن اليهود والمشركين ما يودّون أن ينزل عليكم من خير من ربكم، ولكن كثيرا منهم ودّوا أنهم يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، من بعدما تبين لهم الحقّ في أمر محمد وأنه نبيّ إليهم وإلى خلقي كافة. وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: {وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ} كعب بن الأشرف... عن ابن عباس قال: كان حُيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ} الآية...
ويعني جل ثناؤه بقوله: {حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ} أن كثيرا من أهل الكتاب يودّون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم من الردّة عن إيمانهم إلى الكفر حسدا منهم وبغيا عليهم... يعني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلاً منكم رؤوفا بكم رحيما، ولم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا.
{مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ}: من قِبَلِ أنفسهم، كما يقول القائل: لي عندك كذا وكذا، بمعنى: لي قِبَلك...
وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين من عند أنفسهم إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه.
{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ}: أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب الذين يودّون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم الحقّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه والملة التي دعا إليها فأضاء لهم أن ذلك الحقّ الذي لا يمترون فيه... من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلامَ دينُ الله...
فدلّ بقوله ذلك أن كُفْرَ الذين قصّ قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله عنادٌ، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون... {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ}: من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد، فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشدّ الملامة.
"فاعْفُوا": فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم إرادةَ صَدّكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم، وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: "اسْمَعْ غَيْر مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ". "واصفحوا "عما كان منهم من جهل في ذلك "حتى يأتي الله بأمره": فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: {قاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ، وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكتاب حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم على المؤمنين حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدّوا الجزية عن يد صَغَارا... عن ابن عباس قوله:
{فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ إنّ اللّهَ على كلّ شَيْءٍ قَدِير} ونسخ ذلك قوله: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}...
{إنّ الله على كُلّ شيْءٍ قَدِير}: قد دللنا فيما مضى على معنى القدير وأنه القويّ. فمعنى الآية ههنا: أن الله على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قديرٌ، إن شاء الانتقام منهم بعنادهم ربهم، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا يتعذّر عليه شيء أراده ولا يتعذّر عليه أمر شاء قضاءه لأن له الخلق والأمر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا، ولم يردوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن دين الله الإسلام إلى ما هم عليه كقوله تعالى: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم} [آل عمران: 69] وكقوله: {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100] وقوله: {يردوكم على أعقابكم} [آل عمران: 149] وذلك، والله أعلم لخوف فوت رياستهم التي كانت وذهاب المنافع التي ينالون من الاتباع والسفلة، فودوا ردهم وصرفهم إلى دينهم...
ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أحبوا أن تكون الرسالة فيهم، وأن يكون من عنده سعة كقوله: {لولا أنزل عليه كنز} [هود: 11] وكقوله: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فلهذين الوجهين: يخرج حسدهم
{من عند أنفسهم} أي من قبلها لا أن الله تعالى أمرهم، وليس يضاف إلى الله تعالى بأنه من عنده بما يخلق، ولكن بما يأمر، أو يلزم. ألا ترى أن الأنجاس كلها والخبائث والشياطين كلهم مخلوقة، وإن لم يجز نسبتها إلى الله تعالى بمعنى أنه من عنده، كذلك ما ذكر من الحسد، على أنه معلوم أنهم لم يكونوا يدعون من عند الله خلقا؟ فذلك الوجه ينكر عليهم بل كانوا يدعون الأمر في كل ما نسب إلى الله تعالى؛ فعلى ذلك ورد العقاب، والله أعلم...
{إن الله على كل شيء قدير} على التعذيب والانتقام [وعلى كل شيء]، ولم ينسخ هذا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وأصل الحسد في اللغة: الإلظاظ بالشيء حتّى يخدشه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وأشد الحسد التعرض للاغتمام بكون الخير لأحد. وقد يكون الحاسد متمنيا لزوال النعمة عن المحسود وإن لم يكن يطمع في تحول تلك النعمة.
والصفح والعفو والتجاوز بمعنى واحد.
{إن الله على كل شيء قدير} قيل فيه ثلاثة أقوال:
قال أبو علي: إنه قدير على عقابهم إذ هو: {على كل شيء قدير}.
وقال الزجاج: قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو الأليق بإنجائكم أي فيأمر بالصفح تارة وبالعقاب أخرى على حسب المصلحة.
والثالث: أنه لما أمر بالإمهال والتأخير في قوله: {فاعفوا واصفحوا} كأن فيه تعلق النفس بالعافية في ذلك، فقال أمهلوهم فإنهم لا يعجزون الله، ولا يفوتونه، إذ هو {على كل شيء قدير}. وإنما أمرهم بالصفح، والعفو وإن كانوا مضطهدين مقهورين مقموعين، من حيث إن كثيرا من المسلمين كانوا عزيزين في عشائرهم، وأقوامهم يقدرون على الانتصار والانتقام من الكفار، فأمرهم الله تعالى بان يعفوا وإن قدروا حتى يأتي الله بأمره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ لَحِقَه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودَّ أَلاّ يطلع لأحد بالسلامة نجمٌ، ومَنْ اعتراه الحسد أراد ألا تنبسط على محسوده شمسٌ. وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم اللهُ أَنْفَهُم، وكبَّهم على وجوههم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: بم تعلق قوله: {مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بوَدَّ، على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟
وإما أن يتعلق بحسدا، أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل أنفسهم.
{فاعفوا واصفحوا}: فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن الله على كل شيء قدير}... فيه إشعار بالانتقام من الكفار، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين. ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء؟.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان أكثر المثيرين لهذه الشكوك في صور أهل الإسلام، قال تعالى مخاطباً للمؤمنين وهم في غمارهم تنفيراً لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه فكيف وهو شماتة العدو وبتخييله وودادته تحذيراً لهم من مخالطتهم: {ود كثير} وهو تعليل لمعنى الكلام وهو: فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان، بعد تعليله بالضلال؛ وذلك كما مضى في {ما يود الذين كفروا} [البقرة: 105] سواء...
ولما كان المشركون عرباً عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود وقال: {من أهل الكتاب} فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال: {لو يردونكم} أي بأجمعكم؛ ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال:
{من بعد إيمانكم} أي الراسخ {كفاراً} أي لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار
{حسداً} على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة،
والحسد قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وعبر عن بلوغ الحسد إلى غاية لا حيلة معها في تركه بقوله: {من عند أنفسهم} أي إنه راسخ في طبائعهم فلا تطمعوا في صرفه بشيء، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم، ثم زاده تأكيداً بقوله مشيراً بإثبات الجار إلى ذمهم بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة، لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه، حتى هجم عليهم بيانه وقهرهم عرفانه، ثم لم يرجعوا إليه؛ وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه {من بعد ما تبين} أي بياناً عظيماً بوضوحه في نفسه {لهم الحق} أي من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين المرسل إلى الناس كافة بشهادة ما طابقه من التوراة، ومن أنهم خالدون في النار، لأنهم ممن أحاطت به خطيئته بما دل عليه سبحانه في جميع هذه الآيات إبطالاً لدعواهم في مس النار لهم أياماً معدودة...
ثم أرشد إلى الدواء بقوله مسبباً عن الإخبار بأن ودهم محال وبعدم رجوعهم:
{فاعفوا} أي عاملوهم معاملة العافي بأن لا تذكروا لهم شيئاً مما تظهره تلك الودادة الناشئة عن هذا الحسد من الأقوال والأفعال ولا تأخذوا في مؤاخذتهم به، فإنهم لا يضرونكم ولا يرجعون إليكم.
{واصفحوا} أي أظهروا لهم أنكم لم تطلعوا على شيء من ذلك، وأصل معناه من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء كأنه لم يره، وأمرهم بمطلق الصفح ولم يقيده بالجميل الذي اختص به خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله: فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85] لتنزل الخطاب على مراتبه ومستحق مواقعه. وحثهم على أن يكون فعلهم ذلك اعتماداً على تفريجه سبحانه بقوله: {حتى يأتي الله} الذي لا أمر لأحد معه {بأمره} فبشرهم بذلك بظهورهم على من أمروا بالصفح والعفو عنهم، وقد كان مبدأ ذلك ويتم في زمن عيسى عليه السلام...
ولما كان النصر وهم في القلة والضعف بحال عظيم وقوة عدوهم وكثرتهم أعظم مستبعداً قال: {إن الله} وأظهر موضع الإضمار تحقيقاً للبشرى بالإيماء إلى استحضار ما يدل عليه هذا الاسم الأعظم من صفات الجلال والإكرام
{على كل شيء قدير} ففي هذا الختم بشرى للمؤمنين بتقديرهم كما أن في الختم بالعلم بشرى بتعليمهم. وفي إفهامه نذارة للكافرين بمقابل ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في الآية الأولى من هاتين الآيتين أن أهل الكتاب المتعصبين لدينهم من حيث هو جنسية لهم تقوم بها منافع جنسهم، لم يكتفوا بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكيد له ونقض ما عاهدهم عليه حسدا له ولقومه على نعمة النبوة هم يزيدون على ذلك ما قصه تعالى بقوله {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} فهو بيان لما يضمرونه وما تكنه صدورهم للمسلمين من الحسد على نعمة الإسلام التي عرفوا أنها الحق وأن وراءها السعادة في الدارين، ولكنهم شق عليهم أن يتبعوهم فتمنوا أن يحرموا هذه النعمة ويرجعوا كفارا كما كانوا، وذلك شأن الحاسد يتمنى أن يسلب محسوده النعمة ولو لم تكن ضارة به، فكيف إذا كان يعلم أن تلك النعمة إذا تمت وثبتت يكون من أثرها سيادة المحسود عليه، وإدخاله تحت سلطانه، كما كان يتوقع علماء يهود في عصر التنزيل.
وقد جاء هذا التنبيه تتمة لقوله تعالى قبل آيات {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين وأن ينزل عليكم من خير من ربكم} وقد بين الله لنا ما كان من محاولة أهل الكتاب وتحيلهم على تشكيك المسلمين في دينهم كقول بعضهم لبعض بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره لعل ضعفاء الإيمان يرجعون عن الإسلام اقتداء بهم، كما سيأتي في سورة آل عمران، وفي هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين...
وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات أن يعلم المسلمون أن ما يبدون من أهل الكتاب أحيانا من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه إنما هو مكر السوء يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الاعتقاد...
(قال الأستاذ الإمام): وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة. لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه كأنه يقول: لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، فعاملوهم معاملة القوي العادل، للقوي الجاهل.
(قال): وفي إنزال المؤمنين على ضعفهم منزل الأقوياء، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل... وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه...
ثم قال تعالى {حتى يأتي الله بأمره} فوعدهم بأن سيمدهم بمعونته، ويؤيدهم بنصره.
ثم أحالهم بقوله {إن الله على كل شيء قدير} على قدرته النافذة التي لا يشذ عنها شيء في العالمين، تأييدا للوعد وكشفا لشبهة من عساه يقول: أنى لهذه الشرذمة القليلة العدد، الضعيفة القوي، أن تنتحل لنفسها وصف الملوك العالين، وتقف مع الأمم القوية موقف العافين قادرين؟ فجاء الجواب يقول لمثل هذا المشتبه: إن الذي أوقفها هذا الموقف، ومنحها هذا الوصف، هو القادر على أن يهبها من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، وهو ما يؤيد به سبحانه من يقوم بالحق ويثب عليه {32: 40 ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} وقد فعل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله:
{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر.
وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله: {ما ننسخ} [البقرة: 106] الآيات للوجوه المتقدمة، فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها...
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} [البقرة: 105] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب، فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعاً فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمني الكفر وهو رضي به. وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبيء صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} [النساء: 51] وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير بـِ {يردونكم} دون لو كفرتم ليشار إلى أن ودادتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية. وبه يظهر وجه مجيء {كفاراً} معمولاً لمعمول {ود كثير} ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفاراً بالله أي كفارا كفراً متفقاً عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صْدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه، وبه يظهر أيضاً وجه قوله تعالى: {من بعد ما تبين لهم الحق} فإنه تبيُّنُ أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم...
وإنّما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكى عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى: {وكره إليكم الكفر} [الحجرات: 7] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيراً للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله {بأمره}. قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر. وقال بعضهم: هو واحد الأمور، فعلى القول الأول، بأنه الأمر الذي هو ضد النهي؛ فإن الأمر المذكور هو المصرح به في قوله: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون 29}. وعلى القول بأنه واحد الأمور: فهو ما صرح اللَّه به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وأيدي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يا أُوْلِى الأبصار 2 وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات، والآية غير منسوخة على التحقيق.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أولهما – أن القرآن الكريم الذي أنزله العادل الحكيم لم يذكر أهل الكتاب جميعا، بل ذكر الكثير منهم فقال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب}؛ لأن بعضهم يرجى إيمانه ويسير في طريق الإيمان، ومن سار في طريق الإيمان لا يرجو زواله، ومن يريد الهداية لا يود زوالها.
الأمر الثاني – أنه ذكر أهل الكتاب دون غيرهم لأنهم كانوا أشد رغبة في تضليل المؤمنين، وكان الحق عندهم أشد بيانا، وأقوى برهانا؛ ولأن حسدهم أوضح، فكلما كانت الحجة أقطع، كان حسدهم أوضح وأبين وعداوتهم أشد، ولجاجتهم في الباطل...
يقول سبحانه في موضع التمني وباعثه: {لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} تمنوا أن تعودوا إلى الكفر، بعد أن ذقتم بشاشة الإيمان، وعبر بقوله تعالى: {يردونكم من بعد إيمانكم كفارا} للإشارة أن ذلك رجعة بعد تقدم، وانتكاسة بعد استقامة.
وما كان الباعث على ذلك الحسد؟ وعبر عن حسدهم بأنه منبعث من نفوسهم، وذلك التعبير يشير إلى أمرين:
أولهما – أنه ليس له مبرر إلا من نفوسهم فلا وجه لأن يحسدوكم على ما آتاكم الله تعالى من فضله.
ثانيهما – تأكيد ما في نفوسهم من غل بقوله تعالى: {من عند أنفسهم} [البقرة 109]، كما في قوله تعالى: {يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله...} [البقرة 79]...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: بيان شدة عداوة اليهود، والنصارى للأمة الإسلامية؛ وجه ذلك أن كثيراً منهم يودون أن يردوا المسلمين كفاراً حسداً من عند أنفسهم...
ومنها: أن الكفر بعد الإسلام يسمى ردة؛ لقوله تعالى: {لو يردونكم}؛ ولهذا الذي يكفر بعد الإسلام لا يسمى باسم الدين الذي ارتد إليه؛ فلو ارتد عن الإسلام إلى اليهودية، أو النصرانية لم يعط حكم اليهود، والنصارى...
ومنها: أن الحسد من صفات اليهود، والنصارى...
ومنها: تحريم الحسد؛ لأن مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من تشبه بقوم فهو منهم"؛
واعلم أن الواجب على المرء إذا رأى أن الله أنعم على غيره نعمة أن يسأل الله من فضله، ولا يكره ما أنعم الله به على الآخرين، أو يتمنى زواله؛ لقوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله} [النساء: 32]؛
والحاسد لا يزداد بحسده إلا ناراً تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارهاً لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنه يكره أن ينعم الله على هذا المحسود؛ ثم إن الحاسد أو الحسود مهما أعطاه الله من نعمة لا يرى لله فضلاً فيها؛ لأنه لابد أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقر النعمة؛ حتى لو فرضنا أنه تميز بأموال كثيرة، وجاء إنسان تاجر، وكسب مكسباً كبيراً في سلعة معينة تجد هذا الحاسد يحسده على هذا المكسب بينما عنده ملايين كثيرة؛ وكذلك أيضاً بالنسبة للعلم: بعض الحاسدين إذا برز أحد في مسألة من مسائل العلم تجده. وإن كان أعلم منه. يحسده على ما برز به؛ وهذا يستلزم أن يحتقر نعمة الله عليه؛
فالحسد أمره عظيم، وعاقبته وخيمة؛ والناس في خير، والحسود في شر: يتتبع نعم الله على العباد؛ وكلما رأى نعمة صارت جمرة في قلبه؛ ولو لم يكن من خُلُق الحسد إلا أنه من صفات اليهود لكان كافياً في النفور منه...
ومن فوائد الآية: علم اليهود، والنصارى أن الإسلام منقبة عظيمة لمتبعه؛ لقوله تعالى: {حسداً}؛ لأن الإنسان لا يحسد إلا على شيء يكون خيراً، ومنقبة؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة: 105]...
ومنها: وجوب الحذر من اليهود، والنصارى؛ ما دام كثير منهم يودون لنا هذا...
ومنها: بيان خبث طوية هؤلاء الذين يودون لنا الكفر؛ لقوله تعالى: {من عند أنفسهم}؛ ليس من كتاب، ولا من إساءة المسلمين إليهم؛ ولكنه من عند أنفسهم: أنفس خبيثة تود الكفر للمسلمين حسداً...
ومنها: أن هؤلاء الذين يودون الكفر للمسلمين قد تبين لهم الحق؛ فلو كانوا جاهلين بأن المسلمين على حق، وقالوا: "لا نريد أن نكون على دين مشكوك فيه "لكان لهم بعض العذر؛ ولكنهم قد تبين لهم الحق، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وأن دينه حق، وأن المؤمنين على حق؛ ومع ذلك فهم يودون هذه المودة، ويسعون بكل سبيل أن يصلوا إلى غايتهم؛ فمن أحب شيئاً سعى في تحصيله؛ فكثير من هؤلاء اليهود والنصارى يسعون بكل ما يستطيعون من قوة مادية، أو أخلاقية، أو غيرهما ليردوا المسلمين بعد الإيمان كفاراً... 9 ومن فوائد الآية: مراعاة الأحوال، وتطور الشريعة، حيث قال تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}...
ومنها: أن الذم إنما يقع على من تبين له الحق؛ وأما الجاهل فهو معذور بجهله إذا لم يقصر في طلب العلم...
. ومنها: جواز مهادنة الكفار إذا لم يكن للمسلمين قوة...
ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل، حيث أمر بالعفو، والصفح إلى أن يأتي الله بأمره؛ لأن الأمر بالقتال قبل وجود أسبابه، وتوفر شروطه من القوة المادية والبشرية، ينافي الحكمة...
ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد فعلاً يليق بجلاله وعظمته، وما تقتضيه حكمته؛ لقوله تعالى: {حتى يأتي الله بأمره}...
ومنها: ثبوت القدرة لله عز وجل، وأنها شاملة لكل شيء؛ لقوله تعالى: (إن الله على كل شيء قدير)...
ومنها: بشارة المؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى سيغير حالهم المقتضية للعفو والصفح، إلى قوة يستطيعون بها جهاد العدو...
منها: اتباع الحكمة في الدعوة إلى الله بالصبر، والمصابرة حتى يتحقق النصر، وأنْ تعامَل كل حال بما يناسبها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية جانبٌ من التوعية العملية، وجانبٌ من الأسلوب الرسالي في التخطيط السليم لحركة الدعوة الإسلامية في علاقة المسلمين بأهل الكتاب، فقد أراد اللّه لهم أن يفهموا أنَّ أهلَ الكتاب لم ينطلقوا في معارضتهم لهم من موقع الشبهة الفكرية التي تجعلهم يقفون موقف الرفض للدعوة التي يعتقدون خطأها، أو موقف الحيرة التي تجعلهم يتردّدون بين القبول والرفض، بل كان الدافع لذلك الحسد القاتل الذي يتحرّك من موقع المحافظة على الامتيازات الذاتية القديمة التي يخافون عليها من الزوال أمام قوّة الرسالة الإسلامية وتقدمها، ولهذا فإنهم يودون في داخل أنفسهم لو يستطيعون إرجاعكم إلى الكفر والشرك والوثنية مما يتنافى مع عقيدة التوحيد التي يزعمون الإيمان بها، فلو كانوا منسجمين مع هذه العقيدة، لكان خطّ الإسلام أقرب إلى خطّهم في أغلب الأمور التي يؤمنون بها، ويؤكد القرآن في هذا المجال أنَّ الحقّ قد تبيَّن لهم بأسلوب لا يرقى إليه الشك، الأمر الذي يبطل كلّ حجّة مضادّة لديهم في العقيدة...
ثُمَّ أراد اللّه للمسلمين أن يعفوا ويصفحوا، وذلك من موقع التخطيط العملي الذي يعتمد على سياسة المراحل في حركة القوّة، فلا يمارس القوّة إلاَّ بعد استنفاد الوسائل السلمية التي تفتح للكافرين والمعارضين باب الدخول في الإيمان والسير في خطّ السلم، وعرّفهم أنَّ عليهم أن لا يتشنجوا ويستسلموا للانفعال النفسي المنطلق من الرغبة في التدمير على أساس ما يملكون من قوّة، فإنَّ للقضية حداً لا بُدَّ أن تبلغه، وذلك عندما يأتي اللّه بأمره في تشريع القتال، سواءٌ في ذلك المشركون وأهل الكتاب، فإنّ اللّه لا يفوته أحد مهما امتدّ في قوّته وطغيانه لأنه على كلّ شيء قدير...
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} من الذين لم ينفتحوا على الرسالة من موقع الإيمان، ولم يعملوا على مواجهة الوحي بذهنية الحوار، ولم يرتاحوا إلى الدِّين الجديد الذي لا يبقى معه مجال لدين آخر سابق، باعتبار أنه الدِّين الذي يجمع خلاصة الأديان السابقة ويزيد عليها بما يحقّق للحياة المتجدّدة الحل للمشاكل الطارئة التي اقتضاها تغيّر الزمن وتطوّره، والذي يضع حلولاً جديدة للمشاكل السابقة التي لم يعد الحل الموضوع لها متناسباً مع مرور الزمن، الأمر الذي يفرض تغييرها إلى الأفضل، وهذا ما يؤدي إلى زوال سلطانهم وتأثيرهم على المجتمعات، باعتبار أنهم من أهل الكتاب الذين هم المرجع للنّاس الذين يلتزمون الدِّين ممن يؤمنون باللّه، ليعودوا إليهم في كلّ ما يجهلونه من أمور الدين الذي يملك هؤلاء علمه.
وهذا ما جعلهم يفكرون {لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} لتعودوا إلى الشرك الذي كنتم فيه، لأنَّ المسألة لديهم لا تنطلق من التزامهم الواقعي بالإيمان باللّه وبالرسالات وبالرسل مما يدعو إليه الإسلام ويؤمن به المسلمون، ليكون الإيمان أقرب إليهم في واقع المؤمنين من الشرك، بل هي عقدة ذاتية تربط الإيمان بهم في كلّ خصوصياته؛ فمن كان معهم كان خروجه من الشرك فضيلة، ومن لم يكن معهم كان خروجه مشكلةً لا بُدَّ أن يواجهوها بالرفض حتى لو كانوا مؤمنين من ناحية المبدأ...
{حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} كأي شخص يجد النعمة لدى غيره فيتمنى أن تكون له، فلا يقبلون أن تنتقل النبوّة إلى محمَّد (ص) ليكون كلّ مجدها وشرفها وحركيتها له ولأتباعه. إنها عقدة الحسد الذي ينهش قلوبهم فيتحوّلون إلى واقع العداوة...
{فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ} ولا تدخلوا معهم في حرب، بل سالموهم على أساس السلم الذي فرضته المعاهدة التي دخلتم فيها معهم، مما يلزمكم بالتغاضي عن كلّ نياتهم السيئة وعقدتهم العدوانية، على الرغم من قوتكم في المجتمع المسلم المدني الذي تملكون فيه القوّة التي تستطيعون من خلالها أن تنتصفوا منهم.
{حَتَّى يَأْتِي اللّه بِأَمْرِهِ} عندما تأتي الساعة التي يأذن اللّه فيها بجهادهم من خلال نقضهم العهد من الناحية العملية، وإعلانهم العداوة للمسلمين بالتحالف مع المشركين ضدّكم، لتكون لكم الحجة عليهم في صعيد الواقع.
{إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يمهل عباده، فلا يعجل لهم العقوبة ولا يؤاخذهم بالعذاب من خلال أنه لا يخاف الفوت الذي يوحي لصاحب الحقّ بالاستعجال، ولأنَّ الحكمة قد تدعو إلى ذلك من خلال المصالح العامة المترتبة على ذلك في واقع التعايش الطبيعي بين المسلمين وأهل الكتاب ما داموا سائرين على العهد في خطواتهم العملية، لأنَّ الدوافع السيئة لا تكون أساساً للعقاب...