قوله تعالى : { والذين اتخذوا } ، قرأ : أهل المدينة والشام { الذين } بلا واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون : { والذين } بالواو .
قوله تعالى : { مسجدا ضرارا } ، نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين ، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق : وديعة بن ثابت ، وجذام بن خالد ، ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ومعتب بن قشير ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد ابن عثمان ، ورجل يقال له : بحزج ، بنوا هذا المسجد ضرارا ، يعني : مضارة للمؤمنين ، { وكفراً } ، بالله ورسوله ، { وتفريقاً بين المؤمنين } ، لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار ، ليصلي فيه بعضهم ، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة ، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية . فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه " .
قوله تعالى : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل } ، أي : انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله . يقال : أرصدت له : إذا أعددت له . وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح ، " فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به ؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : فإنا عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك لست عليها ، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين . وسماه أبا عامر الفاسق " . فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله تعالى : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } ، وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشام . قوله : { من قبل } يرجع إلى أبي عامر يعنى حارب الله ورسوله من قبل أي : من قبل بناء مسجد الضرار . { وليحلفن إن أردنا } ، ما أردنا ببنائه ، { إلا الحسنى } ، إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . { والله يشهد إنهم لكاذبون } ، في قيلهم وحلفهم . روي أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم ، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عدي ، وعامر بن السكن ، ووحشياً قاتل حمزة ، وقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، فخرجوا سريعا حتى أتو بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك : انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون ، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله ، فحرقوه وهدموه ، وتفرق عنه أهله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة . ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا . وروي أن بني عمرو بن عوف ، الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم ، فقال : لا ، ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين : لا تعجل علي ، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئاً للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، ولم أعلم ما في أنفسهم ، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء . قال عطاء : لما فتح على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين ، بالحديث عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإِضرار بالإِسلام والمسلمين ، فقال - تعالى - . { والذين اتخذوا مَسْجِداً . . . والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قال الإِمام ابن كثير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها ، رجل من الخروج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه وصار للإِسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارزة العداوة ، وطاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة ليمالئهم على حرب المسلمين فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام " أحد " فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله - تعالى - وكانت العاقبة للمتقين .
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه وكسرت رباعتيه اليمنى والسفلى وشج رأسه . وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم ، واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله لك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره - إلى مكة - وقرأ عليه القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد . فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيدا طريداً فنالته هذه الدعوة .
وذلك أنه لما فرغ الناس من " أحد " ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم ، أنه سيقدم بجيش ليقاتل به النبى - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ، ويرده عما هو فيه . وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قد عليه بعد ذلك .
فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك وجاءوا فسألوه أن يأتى إليهم فيصلى في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم ، وأهل العلة في الليلة الشاتية ! ! فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : " إنا على سفر ولكنا إذا رجعنا - إن شاء الله - آتيناكم فصلينا لكم فيه " .
فلما قفل راجعاً إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل بخير مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر ، والتفريق بين جماع المؤمنين في مسجدهم . مسجد قباء ، الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجسد الضرار من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة .
وقوله : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين } منصوب على الذم .
أى : وأذم الذين اتخذوا مسجدا ضراراً . . أو معطوف على ما سبق من أحوال المنافقين ، والتقدير : ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً .
وقوله " ضراراً " مفعول لأجله أى : اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى . وإنما اتخذوه من أجل الإِضرار بالمؤمنين . وإيقاع الأذى بهم .
وقوله " وكفرا " معطوف على " ضراراً " ؛ وهو علة ثانية لاتخاذ هذا المسجد .
أى : اتخذوه للإِضرار بالمؤمنين ، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه من الغل الذي يحفونه .
وقوله : { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين } علة ثالثة .
أى : واتخذوه أيضاً للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء ، فأراد هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء ، أن يفرقوا وحدة المؤمنين ، بأن يجعلهوهم يصلون في أماكن متفرقة . حسدا لهم على نعمة الإِخاء والتآلف والاتحاد التي غرسها الإِسلام في قلوب أتباعه .
وقوله : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } علة رابعة لاتخاذ هذا المسجد .
أى : واتخذوه ليكون مكانا يرقبون فيه قوم { مَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو أبو عامر الراهب ، الذي أعلن عداوته لدعوة الإِسلام " من قبل " بناء مسجد الضرار .
فقد سبق أن ذكرنا في أسباب نزول هذه الآيات ، أن أبا عامر هذا ، كتب إلى جماعة من قومه . وهو عند هرقل . يعدهم ويمنيهم ، ويطلب منهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه فشرعوا في بناء هذا المسجد .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد ذكرت أربعة من الأغراض الخبيثة التي حملت المنافقين على بناء هذا المسجد ، وهى : مضارة المؤمنين ، وتقوية الكفر ، وتفريق كلمة أهل الحق وجعله معقلا لالتقاء المحاربين لله ولرسوله .
وقد خيب الله تعالى مساعيهم ؛ وأبطل كيدهم ، بأن أمر نبيه - بهدمه وإزالته .
وقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } ذم لهم على أيمانهم الفاجرة ، وأقوالهم الكاذبة .
أى : أن هؤلاء المنافقين قد بنوا مسجد الضرار لتلك المقاصد الخبيثة . ومع ذلك فهم يقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة الحسنى التي عبروا عنها قبل ذلك . كذبا . بقولهم : " إننا بنيناه للضعفاء ، وأهل العلة في الليلة الشاتية " .
وقوله : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } زيادة في مذمتهم وتحقيرهم .
أى : والله - تعالى - يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أيمانهم بأنهم ما أرادوا من بناء مسجدهم إلا الحسنى ، فانهم في الحقيقة لم يريدوا ذلك ، وإنما أرادوا تلك الأغراض القبيحة السابقة ، وهى مضارة المؤمنين ، وتفريق كلمتهم .
هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها ، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم .
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف ، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر . ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله . وقرأها البقية بواو العطف في أولها ، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها . وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد .
وقوله { الذين } مبتدأ وخبره جملة : { لا تقم فيه أبداً } كما قاله الكسائي . والرابط هو الضمير المجرور من قوله : { لا تقم فيه } لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ ، إذ التقدير : لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً ، أو في مسجدهم ، كما قدره الكسائي . ومن أعربوا { أفمن أسس بنيانه } [ التوبة : 109 ] خبراً فقد بعدوا عن المعنى .
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار ، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي . كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية . وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين . ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة . ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف ، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر ، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم ، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة . فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم ، فبنوه بجانب مسجد قباء ، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك . وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية ، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً .
والضرار : مصدر ضار مبالغة في ضر ، أي ضِراراً لأهل الإسلام . والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء .
والإرصاد : التهيئة . والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب ، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ ، فقوله : { من قبلُ } إشارة إلى ذلك ، أي من قبل بناء المسجد .
وجملة : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } معترضة ، أو في موضع الحال . والحسنى : الخير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا}، يعني مسجد المنافقين، {وكفرا} في قلوبهم، يعني النفاق، {وتفريقا بين المؤمنين}، نزلت في اثني عشر رجلا من المنافقين... قالوا: نبني مسجدا نتحدث فيه ونخلوا فيه، فإذا رجع أبو عامر الراهب من الشام -أبو حنظلة غسيل الملائكة-، قلنا له: بنيناه لتكون إمامنا فيه، فذلك قوله: {وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل}، يعني أبا عامر الذي كان يسمى الراهب؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم، فمات كافرا بقنسرين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يبعد علينا المشي إلى الصلاة، فأذن لنا في بناء مسجد، فأذن لهم، ففرغوا منه يوم الجمعة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من يؤمهم؟ قال:"رجل منهم" فأمر مجمع بن حارثة أن يؤمهم، فنزلت هذه الآية، وحلف مجمع: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخير، فأنزل الله عز وجل في مجمع: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} فيما يحلفون...
..سئل مالك عن العشيرة يكون لهم مسجد يصلون فيه فيريد رجل أن يبني قريبا منه مسجدا. أيكون له ذلك؟ فقال: لا خير في الضرار ثم لا سيما في المساجد خاصة. فأما مسجد بني لخير وصلاح فلا بأس به، وأما ضرار فلا خير فيه، قال الله عز وجل: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا} لا خير في الضرار في شيء من الأشياء، وإنما القول أبدا في الآخر من المسجدين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدا ضرارا، وهم فيما ذكر اثنا عشر نفسا من الأنصار: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال: «إنّي على جَناحِ سَفَر وَحالِ شُغْلٍ» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَلَوْ قَدْ قَدِمْنا أتَيْناكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيهِ»، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عديّ أو أخاه عاصم بن عديّ أخا بني العجلان، فقال: «انْطَلِقا إلى هَذَا المَسْجِدِ الظّالِمِ أهْلُهُ فاهْدِمَاهُ وَحَرّقاهُ» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل [إلى] أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرّقاه وهدماه، وتفرّقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل:"وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدا ضِرارا وكُفْرا..." إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً...
فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرا بالله لمحادّتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرّقوا به المؤمنين ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا. "وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ "يقول: وإعدادا له، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله، وكفر بهما وقاتل رسول الله "مِنْ قَبْلُ" يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حَزّبَ الأحزاب، يعني حَزّبَ الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبيّ الله، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم إذا رجع إليهم ففعلوا ذلك، وهذا معنى قول الله جلّ ثناؤه: "وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى" يقول جلّ ثناؤه: وليحلفنّ بانوه إن أردنا إلا الحسنى ببنائناه إلا الرفق بالمسلمين والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، وتلك هي الفعلة الحسنة. "واللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبوُنَ" في حلفهم ذلك، وقيلهم ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السوآى ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لأبي عامر الفاسق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والضرار هو: طلب الضر ومحاولته، كما أن الشقاق محاولة ما يشق، تقول:... والآية تدل على أن الفعل يقع بالإرادة على وجه القبح دون الحسن، أو الحسن دون القبح، لأنهم لو بنوا المسجد للصلاة فيه لكان حسنا، لكن لما قصدوا المضارة كان ذلك قبيحا ومعصية...
وأصل الإرصاد الارتقاب... "والله يشهد انهم لكاذبون "وكفى بمن يشهد الله بكذبه خزيا...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قوله تعالى: {والّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ}، الآية: [107]: يدل على أن الأفعال تختلف بالقصود والإرادات، ولذلك قال: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى}، وإن الذي اتخذ لقصد التفريق بين المؤمنين لا تحل به حرمة، ولذلك قال: {لاَ تَقُم فِيهِ أَبَداً}، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {ضِرَارًا}: مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة، {وَكُفْراً}: وتقوية للنفاق، {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم، {وَإِرْصَادًا} وإعداداً {ل} أجل {منْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو الراهب: أعدوه له ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار...
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه...
{إِنْ أَرَدْنَا}: ما أردنا ببناء هذا المسجد {إِلاَّ} إلا الخصلة {الحسنى} أو الإرادة الحسنة، وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {ضِرَارًا}: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ضِرَارًا بِالْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ ضِرَارٌ، إنَّمَا هُوَ ضِرَارٌ لِأَهْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَكُفْرًا}: لَمَّا اتَّخَذُوا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ وَلَا لِمَسْجِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَفَرُوا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}:
يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاحِدَةً فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا شَمْلَهُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَيَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ لِلْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَكْثَرَ وَالْغَرَضَ الْأَظْهَرَ من وَضْعِ الْجَمَاعَةِ تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَقْدُ الذِّمَامِ وَالْحُرْمَةُ بِفِعْلِ الدِّيَانَةِ، حَتَّى يَقَعَ الْأُنْسُ بِالْمُخَالَطَةِ؛ وَتَصْفُوَ الْقُلُوبُ من وَضَرِ الْأَحْقَادِ وَالْحَسَادَةِ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَفَطَّنَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالَ: (إنَّهُ لَا تُصَلِّي جَمَاعَتَانِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا بِإِمَامَيْنِ، وَلَا بِإِمَامٍ وَاحِدٍ)...
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ من قَبْلُ}: يُقَالُ: أَرْصَدْتُ كَذَا لِكَذَا إذَا أَعْدَدْتَهُ مُرْتَقِبًا لَهُ...
... الذين اتخذوا مسجدا ضرارا كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين بنوا مسجدا يضارن به مسجد قباء، وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة:
الصفة الأولى: ضرارا، والضرار: محاولة الضر... والمعنى: اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده...وجائز أن يكون مصدرا محمولا على المعنى، والتقدير: اتخذوا مسجدا ضروا به ضرارا.
والصفة الثانية: قوله: {وكفرا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد به ضرارا للمؤمنين وكفرا بالنبي عليه السلام، وبما جاء به. وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام.
الصفة الثالثة: قوله: {وتفريقا بين المؤمنين} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، وذلك لأن المنافقين قالوا نبني مسجدا فنصلي فيه، ولا نصلي خلف محمد، فإن أتانا فيه صلينا معه، وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة، وبطلان الألفة.
والصفة الرابعة: قوله: {وإرصادا لمن حارب الله ورسوله} قالوا: المراد أبو عامر الراهب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
نزلت هذه الآيات الأربع في واقعة حال من مكايد المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم و للمؤمنين، لم أر أحدا بين حكمة خاصة لتأخيرها عن أمثالها مما نزل في أعمال المنافقين. ووضعها هنا في سياق توبة المذنبين من المؤمنين: ما تقدم منها فقبل، وما تأخر فأرجئ، وقد بينا الحكمة العامة في تفريق الآيات في الموضوع الواحد ـ وهو تجديد الذكرى والعظة، وما تقتضيه من التأثير والعبرة ـ في مواضع متعددة من الكلام على التناسب ووجوه الاتصال بين الآيات. ولعل بعض ضعفاء المؤمنين كانوا قد شايعوا أولئك المنافقين الاثني عشر الذين بنوا مسجد الضرار في عملهم جاهلين مقاصدهم منه، فأريد بوضع القصة وإبهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم أن يتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه، ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم، ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.
روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته بأن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليت بهم، والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرأون من القرآن شيئا، فعذره وصدقه وأمره بالصلاة بقومه.
{والَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ} يحتمل أن تكون هذه الجملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من السياق في جملته حذف خبرها للعلم به، ويبعد أن تكون معطوفة على قوله: {وآخرون مرجون} إلا على قول ضعيف روي عن الحسن، وهو أنه في المنافقين، والأفصح أن يكون لفظ "الذين "منصوبا على الاختصاص بالذم، وجعله محتملا لما ذكر ولغيره نراه من الإبهام الذي تقتضيه البلاغة في هذا المقام، لما أشرنا إليه آنفا من الإبهام، وقد قرر علماء البيان أن البلاغة تقتضي أحيانا إيراد عبارة تذهب النفس في فهمها عدة مذاهب محتملة فيها. وقرأ نافع وابن عامر "الذين" بغير واو. وهي أقرب إلى قول الحسن منها إلى قول الجمهور، وما أشرنا إليه من حكمة وضع الآيات هنا أظهر في هذه القراءة منه في قراءة جمهور القراء "فتأمل".
ذكر المفسرون أن هؤلاء الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج وسموهم بأسمائهم، وقد بين الله تعالى أن الأغراض التي بنوه لأجلها أربعة ذكرت منصوبة على المفعول لأجله وهي:
أنهم اتخذوه لمضارة المؤمنين، أي محاولة إيقاع الضرر بهم، وهم أهل مسجد قباء" الذين بناه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة مهاجرا، وقبل وصوله إلى المدينة"، إذ بنوه بجواره مضادة لهم في الاجتماع للصلاة فيه.
الكفر أو تقوية الكفر، وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هنالك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور بينهم في الكيد لرسول الله وغير ذلك، قيل: لا بد هنا من تقدير مضاف؛ لأن بناء المسجد نفسه ليس كفرا، ولكن التعليلات الأربعة في الآية هي للقصد من البناء المعبر عنه بالاتخاذ، والكفر يطلق على الاعتقاد وعلى العمل المنافيين للإيمان.
التفريق بين المؤمنين الذين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، وفي ذلك من مقاصد الإسلام الاجتماعية ما فيه، وهو التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، ولذلك كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لمقاصد الإسلام، ومن الواجب على المسلمين في كل بلد أن يصلوا الجمعة في مسجد واحد إذا تيسر، فإن تفرقوا عمدا وصلوا في عدة مساجد والحالة هذه كانوا خاطئين، وذهب بعض الأئمة إلى أن الجمعة الصحيحة تكون حينئذ لأهل المسجد الذين سبقوا بالتجميع، وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كان بقدر حاجة المؤمنين المصلين، وغير سبب لتفريق جماعتهم، ومنه يعلم أن كثيرا من مساجد مصر القريب بعضها من بعض وكذا أمثالها في الأمصار الأخرى لم تبن لوجه الله تعالى، بل كان الباعث على بنائها الرياء، واتباع الأهواء، من جهلة الأمراء والأغنياء.
الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل اتخاذ هذا المسجد، أي الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محاربا، فيجد مكانا مرصدا له، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه، وهم هؤلاء المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك. يقال: رصدته أي قعدت له على طريقه أترقبه، وراصدته راقبته، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد اه ملخصا من الأساس، واتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد لهذا الغرض رجل من الخزرج يعرف بأبي عامر الراهب، وعدهم بأن سيأتيهم بجيش من الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
{ولَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} إخبار مؤكد بالقسم أنهم سيحلفون: إنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة أو الخطة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولي العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلي لهم فيه.
{واللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم، حانثون بيمينهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك... هذا المسجد -مسجد الضرار- الذي اتخذ على عهد رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر باللّه، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين.. هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين. تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!... وتتخذ في صور شتى كثيرة.. ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها؛ وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها. ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- بذلك البيان القوي الصريح: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا، وكفراً، وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل. وليحلفن: إن أردنا إلا الحسنى، واللّه يشهد إنهم لكاذبون...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...إن المنافقين لا يكتفون بأن تكفر قلوبهم، وتسلم ألسنتهم، وأن يخذلوا المؤمنين، ويثبطوهم، ويلمزوا في الصدقات، ويستهزئوا بالمتطوعين بها من المؤمنين، وأن يكثروا من التهكم على الرسول ومن معه، لا يكتفون بذلك، ولكن يتطاولون فيريدون أن ينشئوا بنيانا يكون مربطا لهم، يلجؤون إليه، ويترقبون أخبار المؤمنين منه، ويعلمون بها الرومان ومن لف لفهم من المنافقين أمثالهم، وأنشأوا ذلك البنيان... ليتمكنوا من الاتصال بالرومان من غير علم أحد، وسموا ذلك مسجدا، وسماه التاريخ الإسلامي مسجد الضرار؛ لأنه أنشئ للضرار، فأخذ اسمه من مقصده...
{اتخذوا مسجدا}، أي أنشئوه، واتخذوا مسجدا، أي أن انتحلوه مسجدا باتخاذهم لا أنه مسجد في حقيقته وذاته، بل باتخاذهم، وانتحالهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن قيمة المسجد في الإسلام، في ما يمثّله بناؤه من قيمةٍ روحيةٍ، لا تنطلق من الشكل من حيث هو جهدٌ ماليٌّ وبدنيّ وعمرانيٌّ كبيرٌ، بل من المضمون من حيث الدوافع الخيّرة التي تدفع إليه، والأجواء التي تحيط به، والنتائج التي تتحقق من خلاله، وذلك هو مقياس العمل الصالح. فليست القضية قضية حجم العمل وكميته، بل هي قضية روح العمل ونوعيته. فإن الله قد يتقبل العمل القليل من عبده المؤمن، إذا كان منبعثاً من إخلاصٍ قلبيّ وعبوديّة مخلصة، ويرفض العمل الكثير إذا كان أساسه الرياء والمباهاة والإضرار بالآخرين. وهذا هو الذي جعل مسجد قبا، موضع التقدير والاحترام والرعاية من الله ورسوله، لأنه مسجد أسس على التقوى من أوّل يوم، لأن الذين شيّدوه، لم يفكروا فيه إلاّ من خلال الشعور بالحاجة إلى وجود مكانٍ يُعبَد الله فيه، بعيداً عن أيّ طموحٍ شخصي، أو فائدةٍ عائليّةٍ، أو مصلحة ماديّة، أمّا المسجد الآخر، وهو مسجد الضرار، فقد كان يمثّل ردّ الفعل الذاتي للامتياز الذي حقّقه أصحاب مسجد قبا، من صلاة الرسول فيه واجتماع المسلمين عليه، واعتباره قاعدة للإسلام في منطقته. وبذلك كان الهدف هو الحصول على امتيازات مماثلةٍ من وحي الأنانية العشائرية أو الشخصية، ليحطّموا الموقع الذي حصل عليه أولئك، وليحصلوا على موقع أكبر وأرباح أكثر، ولذلك واجههم الله والرسول بطريقةٍ حاسمةٍ، على خلاف الأهداف التي استهدفوها، وذلك بامتناع النبي عن الصلاة فيه من جهةٍ، وتهديمه وإحراقه من جهةٍ أخرى، وما يستتبع ذلك من كشفٍ لنواياهم السيّئة وأفكارهم الخبيثة، وفضحهم على أكثر من مستوى بين المسلمين... الموقف تجاه من يتستر بأعمال الخير وهذا هو الذي ينبغي للمسلمين أن يستوحوه في تقييم الأشخاص والجماعات التي تقوم بأعمال خيريّة من بناء المساجد والمدارس والمياتم ونحو ذلك، لتكون القيمة للشخصية من الداخل، لا للعمل من الخارج، لئلا يصعد إلى الدرجة العليا في المجتمعات الإسلامية، بعض الأشخاص الذين لا يعيشون طهر الفكرة التي تمثلها المؤسسات، فيستغلون ذلك في سبيل الإساءة إلى الأهداف الكبرى للإسلام، باسم الجانب الشكلي من مؤسسات الإسلام، عندما يحصلون على ما يريدونه لأشخاصهم أو لارتباطاتهم المشبوهة أو الشرّيرة من خلال ذلك. إن هذا الاتجاه في فهم القيمة الحقيقية للعمل الصالح ولفكرة المؤسسات، يمنع الطامحين غير المخلصين من اللعب على الناس في حاضرهم ومستقبلهم باسم العمل الخيري في شكله ومظهره الساذج، لأن الناس سوف تواجه المسألة من موقع دراسة الشخصية ومعرفة النتائج السلبية أو الإيجابية للعمل قبل الحكم له أو عليه. وقد نستطيع الدخول في التفاصيل بطريقة أكثر تفصيلاً من خلال تفسير الآيات...
{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} فيجعلوا لكل فريق منهم مسجداً يتعصبون له ضد المسجد الآخر، ليتحوّل ذلك إلى نوعٍ من الحاجز النفسي الذي يفصل المسلمين عن بعضهم البعض، وبذلك تحصل الفرقة بين المسلمين من الموقع الذي أريد لهم أن يجتمعوا فيه، وهو المكان الذي حرّره الله من كل خصوصيّةٍ للشخص وللعائلة وللفئة، فلا يريده ملكاً لأحد، بل يبقى ملكاً لله لمنفعة المسلمين جميعاً، ليحصلوا فيه على أجواء العبادة الخاشعة الخالصة، وليلتقوا فيه من أجل التداول في مشاكلهم وقضاياهم في حالة السلم والحرب، ولتفتح لهم من خلاله أبواب الحياة بكل سعتها، من قاعدة الطهارة الروحية الخالية من كل قذارات العصبية الجاهلية، فأراد هؤلاء أن يعيدوا الإنسان إلى سجن المؤسسة العائلية، ليهدّموا أساس الفكرة التي تنطلق منها الوحدة، فيحوّلوها إلى قاعدة للفتنة، فيتحول المسجد إلى هيكل تقليديّ، تُعبد فيه العشيرة والأشخاص، بدلاً من الله...
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ما يدّعون ويحلفون، لأن الله اطلع على سرّهم فرأى كيف تحرّكوا من موقع الكفر لا من موقع الإيمان، ومن قاعدة الانحراف لا من قاعدة الاستقامة. ولهذا فإن محاولتهم إقناع النبي محمدصلى الله عليه وسلم بالصلاة في هذا المسجد يعني منحهم الشرعيّة في ذلك كله، ليصلوا إلى أهدافهم من أقرب طريق. وفي ضوء هذا، كان الأمر الإِلهيّ للنبي حاسماً بالرفض القاطع لهم وللمسجد ولكل ما يمثلون، من أجل حماية المسيرة في شكلها ومضمونها وفي امتدادها في الحياة على خط الاستقامة التي لا تسمح لأحدٍ باللعب، ولا تساعد مرحلةً على الانحراف...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أشارت الآيات السابقة إِلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين، وتُعَرِّف الآيات التي نبحثها مجموعة أُخرى منهم، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية، إلاّ أن اللطف الإِلهي أدرك المسلمين، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.
فالآية الأُولى تقول: (والذين اتخذوا مسجداً) وأخفوا أهدافهم الشريرة تحت هذا الاسم المقدس، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف:
إِنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إِلحاق الضرر بالمسلمين، فكان مسجدهم (ضراراً).
«الضرار» تعني الإضرار العمدي، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إِلى المكيدة بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته، وسحق المسلمين، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.
تقوية أُسس الكفر، ومحاولة إِرجاع الناس إِلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإِسلام: (وكفراً).
إِيجاد الفرقة بين المسلمين، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريباً منه، أو مسجد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يبعد عنه، (وتفريقاً بين المؤمنين).
ويظهر من هذه الجملة وكذلك فهم بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إِلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإِسلامية.
والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق، السيئة، والانطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم: (وإِرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل).
إِلاّ أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع، وأنّهم لا يريدون إلاّ الخير: (وليحلفن إِن أردنا إلاّ الحسنى) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور، فإنّهم إضافة إِلى تلبسهم بلباس حسن، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام، وانحراف الأفكار.
إِلاّ أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء: (والله يشهد إِنّهم لكاذبون).
في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء، فهي جملة اسمية أوّلا، ثمّ إنّ كلمة (إِن) للتأكيد، وأيضاً اللام في (لكاذبون)، والتي تسمى لام الابتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.