قوله تعالى : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض } عن ذكرنا ودعائنا { ونأى بجانبه } ، أي تباعد عنا بنفسه ، أي ترك التقرب إلى الله بالدعاء . وقال عطاء : تعظم وتكبر ، ويكسر النون والهمزة حمزة و الكسائي ، ويفتح النون ويكسر الهمزة أبو بكر ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر وناء مثل جاء قيل : هو بمعنى نأى ، وقيل : ناء من النوء وهو النهوض والقيام . { وإذا مسه الشر } ، الشدة والضرر ، { كان يؤوساً } أي : آيساً قنوطاً . وقيل : معناه أنه يتضرع ويدعو عند الضرر والشدة ، فإذا تأخرت الإجابة يئس ولا ينبغي للمؤمن أن ييأس من الإجابة ، وإن تأخرت فيدع الدعاء .
ثم صور - سبحانه - حال الإِنسان عند اليسر والعسر ، وعند الرخاء والشدة فقال - تعالى - : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً } .
أى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } بنعمة الصحة والغنى وما يشبههما مما يسره ويبهجه { أعرض } عن طاعتنا وشكرنا { ونأى بجانبه } أى : وابتعد عنا ، وولانا ظهره والنأى : البعد ، يقال : مكان ناء ، أى بعيد ، ونأى فلان عن الشئ نأيا : إذا ابتعد عنه .
وقوله - تعالى - : { نأى بجانبه } تأكيد للإِعراض ، لأن الإِعراض عن الشئ أن يوليه عرض وجهه ، والنأى بالجانب : أن يلوى عنه عطفه ، ويوليه ظهره ، ويظهر الاستكبار والغرور . وقوله - تعالى - : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً } أى : وإذا مس الشر هذا الإِنسان من فقر أو مرض ، كان يئوسا وقنوطًا من رحمه الله - تعالى - .
فهو فى حالة الصحة والغنى يبطر ويتكبر ويطغى . وفى حالة الفقر والمرض ييئس ويقنط ويستولى عليه الحزن والهم .
والمراد بالإِنسان هنا جنسه ، إذ ليس جميع الناس على هذه الحالة ، وإنما منهم المؤمنون الصادقون الذين يشكرون الله - تعالى - على نعمه ، ويذكرونه ويطيعونه فى السراء والضراء .
قال - تعالى - : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } فأنت ترى أن الله - تعالى - قد استثنى الذين صبروا وعملوا الصالحات ، من رذيلة الجحود عند اليسر ، واليأس عند العسر .
قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ . . . } جنسه ، إذ يكفى فى صحة الحكم وجوده فى بعض الأفراد ، ولا يضر وجود نقيض فى البعض الآخر ، وقيل : المراد به الوليد بن المغيرة .
وفى إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الإِنعام إلى ضميره - تعالى - إيذان بأن الخير مراد بالذات ، والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذى يقتضيه الكرم المطلق ، والرحمة الواسعة ، وإلى ذلك الإِشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ }
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ }
لما كان القرآن نعمة عظيمة للناس ، وكان إعراض المشركين عنه حرماناً عظيماً لهم من خيرات كثيرة ، ولم يكن من شأن أهل العقول السليمة أن يرضوا بالحرمان من الخير ، كان الإخبار عن زيادته الظالمين خساراً مستغرباً من شأنه أن يثير في نفوس السامعين التساؤل عن سبب ذلك ، أعقب ذلك ببيان السبب النفساني الذي يوقع العقلاء في مهواة هذا الحرمان ، وذلك بعد الاشتغال بما هو فيه من نعمة هَويها وأولع بها ، وهي نعمة تتقاصر عن أوج تلك النعم التي حرم منها لولا الهوى الذي علق بها والغرور الذي أراه إياها قصَارى المطلوب ، وما هي إلا إلى زوال قريب ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمّل : 11 ] وقوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 - 197 ] .
فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها .
والتعريف في { الإنسان } تعريف الجنس ، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي ، أي أكثر أفراد الإنسان لأن أكثر الناس يومئذٍ كفار وأكثر العرب مشركون . فالمعنى : إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا وإذا مسهم الشر يئسوا . وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاءً لأنفسهم وشكر النعمة من شِيمهم والصبر على الضر من خلقهم .
والمراد بالإنعام : إعطاء النعمة . وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق ، كما في قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 7 ] . وقوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصدّيقين } [ النساء : 69 ] .
والإعراض : الصد ، وضد الإقبال . وتقدم عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعِظهم } في سورة [ النساء : 63 ] ، وقوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } في سورة [ الأنعام : 68 ] .
والنأي : البعد ، وتقدم في قوله تعالى : { وينأون عنه } في سورة [ الأنعام : 26 ] .
والجانب : الجنب . وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد ، وهما جانبان : يمين ويسار .
والباء في قوله : { بجانبه } للمصاحبة ، أي بَعِدَ مصاحباً لجانبه ، أي مبعداً جانبه . والبُعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء ، قال عنترة :
وكأنما ينأى بجانب دَفّها الْ *** وَحْشِيّ من هزج العشي مؤوم{[271]}
فالمفاد من قوله : { وناء بجانبه } صد عن العبادة والشكر . وهذا غير المفاد من معنى { أعرض } فليس تأكيداً له ، فالمعنى : أعرض وتباعد .
وحذف متعلق { أعرض ونأى } لدلالة المقام عليه من قوله : { أنعمنا على الإنسان } ، أي أعرض عنا وأجفل منا ، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا .
وقرأ الجمهور { وناء } بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة .
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر { وناء } بألف بعد النون ثم همزة . وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف .
من ذلك قولهم : راء في رأى ، وقولهم : آرام في أرْام ، جمع رئم ، وقيل : ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل ، أي عن الشكر ، أي في معنى قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } [ الأعراف : 176 ] .
وجملة { وإذا مسه الشر كان يؤساً } احتراس من أن يتَوهم السامع من التقييد بقوله : { وإذا أنعمنا } أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء ، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييَأس من الخير ويبقى حنقاً ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره .
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة [ فصلت : 51 ] { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } كما سيأتي هنالك .
ودل قوله : { كان يؤساً } على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة . وأقحم معه فعل ( كان ) الدال على رسوخ الفعل ، تعجيباً من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه ، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.