قوله تعالى : { وربطنا } شددنا { على قلوبهم } بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العز وخصب العيش وفروا بدينهم إلى الكهف ، { إذ قاموا } بين يدي دقيانوس حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام { فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها } ، قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأوثان ، { لقد قلنا إذاً شططاً } يعني : إن دعونا غير الله لقد قلنا إذاً شططاً ، قال ابن عباس : جوراً . وقال قتادة : كذباً . وأصل الشطط والأشطاط مجازة القول والإفراط .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ } .
وأصل الربط : الشد ، يقال ، ربطت الدابة ، أى : شددتها برباط ، والمراد به هنا : ما غرسه الله فى قلوبهم من قوة ، وثبات على الحق ، وصبر على فراق أهليهم ، ومنه قولهم : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب .
والمراد بقيامهم : عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل ، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة .
ويصح أن يكون المراد بقيامهم : وقوفهم فى وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة ، دون أن يبالوا به عندما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم ، وإعلانهم دين التوحيد ، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { إذ قاموا } يحتمل ثلاثة معان . أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدى الملك الكافر ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا ما دعاهم إليه .
والمعنى الثانى فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد ، وتعاهدوا على عبادة الله وحده .
والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله - تعالى - ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ، إذا عزم عليه بغاية الجد .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذى اهتدت إليه ، معتزة بالإِيمان الذى أشربته ، مستبشرة بالإِخاء الذى جمع بينها على غير ميعاد ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :
" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " .
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن استقر الإِيمان فى نفوسهم فقال : { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها . . } .
أى : أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله - عز وجل - حين قاموا فى وجه أعدائهم ، وقالوا بكل شجاعة وجرأة : ربنا - سبحانه - هو رب السموات والأرض ، وهو خالقهما وخالق كل شئ ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر .
ونفوا عبادتهم لغيره - سبحانه - بحرف - " لن " للإِشعار بتصميمهم على ذلك فى كل زمان وفى كل مكان ، إذ النفى بلن أبلغ من النفى بغيرها .
قال الآلوسى : وقد يقال ؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى - وهى : ربنا رب السموات والأرض - إلى توحيد الربوبية ، وأشاروا بالجملة الثانية - لن ندعو من دونه إلها - إلى توحيد الألوهية ، وهما أمران متغايران ، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ، ويقولون بالأول : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } وحكى - سبحانه - عنهم أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } وصح أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وقوله - سبحانه - { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله - تعالى - .
والشطط : مصدر معناه مجاوزة الحد فى كل شئ ، ومنه : أشط فلان فى السَّومْ إذا جاوز الحد ، وأشط فى الحكم إذا جاوز حدود العدل : وهو صفة لموصوف محذوف ، وفى الكلام قسم مقدر ، واللام فى " لقد " واقعة فى جوابه ، و " إذا " حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر .
أى : ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دون إلها . ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر ، والله لنكونن فى هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا ، أى : بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب .
والأية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية ، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله - تعالى - قلبه ، وقواه على تحمل الشدائد ، كما تدل على أن من أشرك مع الله - تعالى - إلها آخر ، يكون بسبب هذا الإِشراك ، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
وقوله { وربطنا على قلوبهم } عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم ، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال ، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ، ومنه يقال : فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها ، ومنه الربط على قلب أم موسى ، وقوله { إذ قاموا فقالوا } يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر ، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس ، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد ، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول{[7758]} ، وقرا الأعمش «إذ قاموا قياماً فقالوا » ، وقولهم : { لقد قلنا إذاً شططاً } أي لو دعونا من دون ربنا إلهاً ، والشطط الجور ، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر ، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها ، ومنه شطوط النوى والبعد ، ومن اللفظة قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا يالقومي قد اشتط عواذلي . . . ويزعمن أن أودى بحقي باطلي{[7759]}
الربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه ، فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده . كما قال تعالى : { لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } [ القصص : 10 ] . ومنه قولهم : هو رابط الجأش . وفي ضده يقال : اضطرب قلبه ، وقال تعالى : { وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] . استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء .
وتعدية فعل { ربطنا } بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل .
و { إذ قاموا } ظرف للربط ، أي كان الربط في وقت في قيامهم ، أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارناً لربط الله على قلوبهم ، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول .
والقيام يحتمل أن يكون حقيقياً ، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك ، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك . ويحتمل أن يكون القيام مستعاراً للإقدام والجَسْر على عمل عظيم ، وللاهتمام بالعمل أو القول ، تشبيهاً للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما ، كقول النابغة :
بأن حِصْناً وحياً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حِمانا غيرُ مقروب
فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود .
وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم : إما لأنهم عُرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات ، وإما لأن الله لم يكن معروفاً باسم عَلَم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو ( جوبتير ) الممثل في كوكب المشتري ، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة . وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى : { قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } [ الشعراء : 23 24 ] .
هذا إن كان القول مَسوقاً إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهارَ عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه ، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون { لا ضيْر إنا إلى ربنا منقلبون } [ الشعراء : 50 ] ، أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهةِ خطابهم استنزالاً لطائرهم على طريقة التعريض من باب ( إيّاككِ أعني فاسمعي يا جارة ) ، واستقصاءً لتبليغ الحق إليهم . وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته ، ولأن القول نُسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم ، بخلاف الإسناد في قوله : { قال قائل منهم كم لبثتم } [ الكهف : 19 ] تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقاً آخر ، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم ، ويكون قوله : رب السماوات والأرض } خبر المبتدأ إعلاماً لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة { لن ندعوا } استئنافاً . وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيداً لقوله : { وإذ اعتزلتموهم } [ الكهف : 16 ] الخ . فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم ، ولأنها تتضمن تشريفاً لأنفسهم ، ويكون قوله : رب السماوات والأرض } صفةً كاشفة ، وجملة { لن ندعوا من دونه إلهاً } خبرَ المبتدأ .
وذكرو الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال .
وجملة { لقد قلنا إذاً شططاً } استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي بِ ( لن ) . وإن وجود حرف الجواب في خِلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها . واللام للقسم .
والشطط : الإفراط في مخالفة الحق والصواب . وهو مشتق من الشط ، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس ، فاستعير للإفراط في شيء مكروه ، أي لقد قلنا قولاً شططاً ، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله .