قوله تعالى : { من أجل ذلك } ، قرأ أبو جعفر : من أجل ذلك بكسر النون موصولاً ، وقراءة العامة بجزم النون ، وفتح الهمزة مقطوعة ، أي : من جراء ذلك القاتل وجنايته ، يقال : أجل يأجل أجلاً إذا جنى ، مثل أخذ يأخذ أخذ .
قوله تعالى : { كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس } . قتلها فيقاد منه .
قوله تعالى : { أو فساد في الأرض } يريد بغير نفس ، وبغير فساد في الأرض ، من كفر ، أو زنا ، أو قطع طريق ، أو نحو ذلك .
قوله تعالى : { فكأنما قتل الناس جميعاً } ، اختلفوا في تأويلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة : من قتل نبياً ، أو إماماً عدل ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن شد عضد نبي ، أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعاً . قال مجاهد : من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها ، كما يصلى لو قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً . قال قتادة : أعظم الله أجرها ، وعظم وزرها ، معناه : من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً في الإثم ، لأنهم لا يسلمون منه .
قوله تعالى : { ومن أحياها } ، وتورع عن قتلها .
قوله تعالى : { فكأنما أحيا الناس جميعاً } في الثواب لسلامتهم منه . قال الحسن : { فكأنما قتل الناس جميعاً } يعني : أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً ، { ومن أحياها } : أي عفى عمن وجب عليه القصاص له ، فلم يقتله ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ، قال سليمان بن علي قلت للحسن : يا أبا سعيد ، أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال : إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .
قوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } .
ثم بين - سبحانه - بعد أن ساق ما جرى بين ابني آدم - ما شرعه من شرائع تردع المعتدى ، وتبشر التقي فقال - تعالى - { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } .
وأصل معنى الأجل : الجناية التي يخشى منها آجلا . يقال : أجل الرجل على أهله شراً يأجله - بضم الجيم وكسرها - أجلا إذا جناه أو أثاره وهيجه ، ثم استعمل في تعليل الجنايات كما في قولهم : من أجلك فعلت كذا . أي بسببك ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل .
والجار والمجرور ( من أجل ) متعلق بالفعل ( كتبنا ) واسم الإِشارة ( ذلك ) يعود ما ذكر في تضاعيف قصة ابن آدم من أنواع المفاسد المترتبة على هذا القتل الحرام .
والمعنى : يبسبب قتل قابيل لأخيه هابيل حسداً وظلما ، ومن أجل ما يترتب على القتل بغير حق من مفاسد { كَتَبْنَا } أي فرضنا وأوجبنا { على بني إِسْرَائِيلَ } في التوراة ما يردع المعتدي وما يبشر المتقي .
قال الجمل : قال بعضهم : إن قوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } - والمعنى : فأصبح من النادمين من أجل ذلك . يعني من أجل أنه قتل أخاه هابيل ولم يواره ، ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله : من أجل ذلك ويجعله من تمام الكلام الأول ، ولكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } ابتداء كلام متعلق بقوله { كَتَبْنَا } فلا يوقف عليه .
و ( من ) هنا للسببية . أي : بسبب هذه الجناية شرعنا ما شرعنا من أحكام لدفع الشر وإشاعة الخير .
وعبر - سبحانه - عن السببية . بمن لبيان الابتداء في الحكم . وأنه اقترن بوقوع تلك الجرية النكراء التي ستكون آثارها سيئة إذا لم تشرع الأحكام لمنعها .
وقد الجار والمجرور على ما تعلق به وهو ( كتبنا ) لإفادة الحصر أي : من ذلك ابتدئ الكتب ومنه نشأ لا من شيء آخر .
وعبر - سبحانه - بقوله ( كتبنا ) للإِشارة إلى أن الأحكام التي كتبها ، قد سجلت بحيث لا تقبل المحو أو التبديل ، بل من الواجب على الناس أن يلتزموا بها ، ولا يفرطوا في شيء منها .
وخص بنو إسرائيل بالذكر مع أن الحكم عام - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا ، وكان قبل ذلك قولا مطلقا ، ولأنهم أكثر الناس سفكا للدماء ، وقتلا للمصلحين ، فقد قتلوا كثيرا من الأنبياء ، كما قتلوا أكثر المرشدين والناصحين ، ولأن الأسباب التي أدت إلى قتل قابيل لهابيل من أهمها الحسد ، وهو رذيلة معروفة فيهم ، فقد حملهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على الكفر به مع أنهم يعرفون صدقة كما يعرفون أبناءهم ، كما حملهم على محاولة قتله ولكن الله - تعالى نجاه من شرورهم .
وما أشبههم في قتلهم للذين يأمرونهم بالخير بقابيل الذي قتل أخاه هابيل ؛ لأنه أرشده إلى ما يصلحه .
وقوله - تعالى - : { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } بيان لما كتبه - سبحانه - من أحكام تسعد الناس متى اتبعوها .
والمعنى : بسبب قتل قابيل لأخيه هابيل ظلما وعدوانا ، كتبنا في التوراة على بني إسرائيل ( أنه ) أي : الحال والشأن { مَن قَتَلَ نَفْساً } واحدة من النفوس الإِنسانية { بِغَيْرِ نَفْسٍ } .
أي : بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص منه { أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض } أي : أو بغير فساد في الأرض يوجب إهدار الدم - كالردة وزنا المحصن - { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } لأن الذي يقتل نفسا بغير حق ، يكون قد استباح دما مصونا قد حماه الإِسلام بشرائعه وأحكامه ، ومن استباح هذا الدم في نفس واحدة ، فكأنه قد استباحه في نفوس الناس جميعا ، إذا النفس الواحدة تمثل النوع الإِنساني كله . { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي : ومن تسبب في إحيائها وصيانتها من العدوان عليها ، كأن استنقذها مما يؤدي بها إلى الهلاك والأذى الشديد ، أو مكن الحاكم من إقامة الحد على قاتلها بغير حق ، من فعل ذلك فكأنما تسبب في إحياء الناس جميعا .
وفي هذه الجملة الكريمة أسمى ألوان الترغيب في صيانة الدماء ، وحفظ النفوس من العدوان عليها ، حيث شبه - سبحانه 0 قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعا ، وإحياءها بإحياء الناس جميعا .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع ، وجعل حكمه كحكمهم ؟
قلت : لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله ، وثبوت الحرمة . فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته ، وعلى العكس . فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك .
فإن قلت : فلما الفائدة في ذكر ذلك ؟ قلت : نعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب وليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها ، لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا ، عظم ذلك عليه فثبطه - عن القتل - وكذلك الذي أراد إحياءها .
وقال الإِمام ابن كثير : قال الحسن وقتادة في قوله - تعالى - { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً } . . إلخ .
هذا تعظيم لتعاطي القتل . قال قتادة : عظيم والله وزرها ، وعظيم والله أجرها . وقيل للحسن : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره - هي لنا 0 كما كانت لهم . وما جعل - سبحانه - دماءهم أكرم من دمائنا .
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المراد بالنفس في قوله { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً } : العموم أي : نفسا يحرم قتلها من بني الإِنسان .
وبعضهم يرى أن المراد نفس الإمام العادل ، لأن القتل في هذه الحالة يؤدي إلى اضطراب أحوال الجماعة ، وإشاعة الفتنة فيها . قال القرطبي : روى عن ابن عباس أنه قال : المعنى : من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره ، فكأنما أحيا الناس جميعا .
ويبدو لنا أن تفسير النفس بالعموم أولى ، لأنه هو الذي عليه جمهور العلماء ، ولأنه أدعى لحفظ الدماء الإِنسانية ، وإعطائها ما تستحقه من صيانة واحترام .
وقوله . { بِغَيْرِ نَفْسٍ } متعلق بالفعل قبله وهو ( قتل ) . وقوله ( أو فساد ) مجرور عطفا على نفس المجرورة بإضافة غير إليها .
و " ما " في قوله { فَكَأَنَّمَا } كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها .
وقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ } لبيان لموقف بني إسرائيل القبيح مما جاءهم من هدايات على أيدي أنبيائهم ومرشديهم .
أي : ولقد جاءت رسلنا لبني إسرائيل بالآيات البينات ، والمعجزات الواضحات ، { إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك } أي : بعد الذي كتبناه عليهم من شرائع ، وبعد مجئ الرسل إليهم بالبينات { فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ } أي : لمجاوزون الحد في ارتكاب المعاصي والآثام ، إذ الإسراف مجاوزة حدود الحق والعدل بدون مبالاة أو اهتمام بهما . وأكد - سبحانه - جملة { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا } بالقسم ، لكمال العناية بمضمونها ، ولبيان أن الرسل - عليهم السلام - ما قصروا في إرشاد بني إسرائيل إلى ما يسعدهم ويهديهم ، فقد جاء وهم بالشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها . والتعبير " بجاءتهم " يشير إلى أن الرسل - عليهم السلام - وصلوا إليهم ، وصاروا قريبين منهم ، بحيث يرونهم ويخاطبونهم ولا يتركون أمراً يهمهم إلا بينوه لهم .
وجملة { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ } معطوفة على جملة { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ } .
وكان العطف " بثم " المفيدة هنا للتراخي في الرتبة ، للإِشارة إلى الفرق الشاسع بين ما جاءتهم به الرسل من بينات وهدايات ، وبين ما كان عليه بنو إسرائيل من جحود وعناد وإفساد في الأرض .
واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى المذكور من مجيء الرسل إليهم بالبينات ومن كتابة الشرائع عليهم . وفي وصف الكثيرين من بني إسرائيل بالاسراف احتراس في الحكم ، وإنصاف للقلة التي آمنت منهم ، وهذا من عدالة القرآن الكريم في أحكامه ، ودقته في تعبيراته .
وذكر - سبحانه - أن إسراف الكثيرين منهم { فِي الأرض } مع أنه لا يكون إلا فيها ، للإِيذان بأن فسادهم وإسرافهم في القتل والمعاصي لم يكن فيما بينهم فحسب ، بل انتشر وشره في الأرض ، وسرى إلى غيرهم من سكانها المنتشرين فيها . وبذلك نرى أن هذه الآيات قد حكت لنا ما دار بين ابني آدم من محاورات أدت إلى قتل أحدهما للآخر ظلما وحسدا ، إذ الحسد يأكل القلوب ، ويشعلها بالشر كما تشتعل النار في الحطب ، وبسببه ارتكبت أول جريمة قتل على ظهر الأرض ، وبسببه كانت أكثر الجرائم في كل زمان ومكان . . كما حكت لنا أن بني إسرائيل - مع علمهم بشناعة جريمة القتل - قد أسرفوا في قتل الأنبياء والمصلحين مما يدل على قسوة قلوبهم ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه عما كانوا يلاقونه من اليهود المعاصرين لهم من عناد ومكر وأذى .
جمهور الناس على أن قوله : { من أجل ذلك } متعلق بقوله { كتبنا } أي بسبب هذه النازلة ومن جَّراها كتبنا ، وقال قوم : بل هو متعلق بقوله { من النادمين } [ المائدة : 31 ] أي ندم من «أجل » ما وقع ، والوقف على هذا على ذلك ، والناس على أن الوقف { من النادمين } ويقال أجل الأمر أجلاً{[4520]} وأجلاً إذا جناه وجره ، ومنه قول خوات :
وأهل خباء صالح ذات بينهم *** قد احتربوا في عاجل أنا آجله{[4521]}
ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : [ من اجل ذلك ] بوصل الألف وكسر النون قبلها ، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا : كم ابلك بكسر الميم ووصل الألف . . ومن ابراهيم بكسر النون و { كتبنا } معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص الله تعالى : { بني إسرائيل } بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظوراً لوجهين ، أحدهما فيما روي أن { بني إسرائيل } أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسكفهم الدماء ، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليه هذا ، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً ، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم ، وقوله تعالى : { بغير نفس } معناه بغير أن تقتل نفساً فتستحق القتل ، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس ظلماً تعدياً . وهنا يندرج المحارب ، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة ، وقرأ الحسن «أو فساداً في الأرض » بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فساداً أو أحدث فساداً ، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه ، وقوله تعالى : { فكأنما قتل الناس جميعاً } اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه ، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبياً إو إمام عدل { فكأنما قتل الناس جميعاً } ومن أحياه بأن شد عضده ونصره { فكأنما أحيا الناس جميعاً } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا تعطيه الألفاظ ، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : المعنى من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً . ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحيامن أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعاً . وقال عبد الله بن عباس أيضاً ، المعنى فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ . وقال ابن عباس أيضا وغيره :المعنى : من قتل نفسا فأوبق نفسه فكأنه قتل الناس جميعا ، إذ يصلى النار بذلك ، ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من «قتل الناس جميعاً » . وقال مجاهد :الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ، يقول لو «قتل الناس جميعاً » لم يزد على ذلك . ومن لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه . وقال ابن زيد : المعنى أي من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من «قتل الناس جميعاً » . قال : ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق ، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعاً .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات ، إحداها القود فإنه واحد ، والثانية الوعيد ، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب ، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك ، والثالثة انتهاك الحرمة ، فإن نفساً واحدة ، في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع ، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئاً ، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله ، فقد استويا في الحنث ، وقوله تعالى : { ومن أحياها } فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى . وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود : أنا أحيي ، سمى الترك إحياء ، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد ، ثم أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل » أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه ، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود ، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم .
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } .
يتعيّن أن يكون { من أجل ذلك } تعليلاً ل { كتبنا } ، وهو مبدأ الجملة ، ويكون منتهى التي قبلها قوله : { من النّادمين } [ المائدة : 31 ] . وليس قوله { من أجل ذلك } معلّقاً ب« النّادمين » تعليلاً له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله { فأصبح } [ المائدة : 31 ] .
و { مِن } للابتداء ، والأجْل الجَرّاء والتسبّب أصله مصدر أجَلَ يأجُل ويأجِل كنصر وضرب بمعنى جَنَى واكتسب . وقيل : هو خاصّ باكتساب الجريمة ، فيكون مرادفاً لجَنَى وَجَرَم ، ومنه الجناية والجريمة ، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجْل على المكتسب مطلقاً بعلاقة الإطلاق . والابتداء الذي استعملت له ( مِن ) هنا مجازي ، شُبّه سبب الشيء بابتداء صدوره ، وهو مثار قولهم : إنّ من معاني ( مِنْ ) التعليل ، فإنّ كثرة دخولها على كلمة « أجل » أحدث فيها معنى التّعليل ، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل ، كما في قول الأعشى :
فآليْت لا أرثي لها من كلالة *** ولا من حَفى حتّى ألاقي محمّداً
واستفيد التّعليل من مفاد الجملة . وكان التّعليل بكلمة مِن أجل أقوى منه بمجرّد اللام ، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه . وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص { ذلك } قصدُ استيعاب جميع المذكور .
وقرأ الجمهور { منْ أجل ذلك } بسكون نون ( مِن ) وإظهار همزة ( أجل ) . وقراءة ورش عن نافع بفتح النّون وحذف همزة أجل على طريقته . وقرأ أبو جعفر { مِنِ اجْل ذلك } بكسر نون ( من ) وحذففِ همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير منطوق بها .
ومعنى { كتبنا } شرعنا كقوله { كُتب عليكم الصّيام } [ البقرة : 183 ] . ومفعول { كتبنا } مضمون جملة { أنّه مَن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً } . وَ ( أنَّ ) من قوله { أنَّه } بفتح الهمزة أخت ( إنّ ) المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدريّة ، وضمير « أنّه » ضمير الشأن ، أي كتبنا عليهم شأناً مهمّاً هو مماثلةُ قتل نفس واحدة بغير حقّ لقتل القاتل النّاسَ أجمعين .
ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التّركيب يتّضح ببيان موقع حرف ( أنّ ) المفتوح الهمزة المشدّد النّون ، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلاّ معمولاً لعامل قبله يقتضيه ، فتعيّن أنّ الجملة بعد ( أنّ ) بمنزلة المفرد المعمول للعامل ، فلزم أنّ الجملة بعد ( أنّ ) مؤوّلة بمصدر يسبك ، أي يؤخذ من خبر ( أنّ ) .
وقد اتّفق علماء العربيّة على كون ( أنّ ) المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون أختاً لحرف ( إنّ ) المكسورة الهمزة ، وأنّها تفيد التّأكيد مثل أختها .
واتّفقوا على كون ( أنْ ) المفتوحة الهمزة من الموصولات الحَرْفيّة الخمسة الّتي يسبك مدخولها بمصدر .
وبهذا تزيد ( أنّ ) المفتوحة على ( إنّ ) المكسورة . وخبر ( أنّ ) في هذه الآية جملة { من قَتل نفساً بغير نفس } الخ . وهي مع ذلك مفسّرة لضمير الشأن . ومفعول { كتبنا } مأخوذ من جملة الشّرط وجوابه ، وتقديرُه : كتبنا مُشابهةَ قتِل نفس بغير نفس الخ بقتل النّاس أجمعين في عظيم الجرم .
وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسّرين والنحويين . ووقع في « لسان العرب » عن الفرّاء ما حاصله : إذا جاءت ( أنّ ) بعد القول وما تصرّف منه وكانت تفسيراً للقول ولم تكن حكاية له نصبتَها ( أي فتحت همزتها ) ، مثل قولك : قد قلتُ لك كلاماً حَسناً أنّ أباك شريف ، تفتَح ( أنّ ) لأنّها فسَّرت « كلاماً » ، وهو منصوب ، ( أي مفعول لفعل قُلت ) فمفسِّره منصوب أيضاً على المفعوليّة لأنّ البيان له إعراب المبيَّن . فالفراء يثبت لِحرف ( أنّ ) معنى التفسير عِلاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدريّة ، فصار حرف ( أنّ ) بالجمع بين القولين دَالاّ على معنى التّأكيد باطّراد ودالاّ معه على معنى المصدريّة تارة وعلى معنى التّفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام . ولعلّ الفرّاء ينحُو إلى أنّ حرف ( أنّ ) المفتوحة الهمزة مركّب من حرفين هما حرف ( إنّ ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وحرف ( أنْ ) المفتوحة الهمزة الساكنة النّون الّتي تكون تارة مصدريّة وتارة تفسيرية ؛ ففتْحُ همزته لاعتبار تركيبه من ( أنْ ) المفتوحة الهمزة السّاكنة النّون مصدريّة أو تفسيرية ، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من ( إنّ ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وأصله و ( أنْ إنّ ) فلمّا رُكِّبَا تداخلت حروفهما ، كما قال بعض النّحويين : إن أصل ( لن ) ( لا أنْ ) .
وهذا بيان أنّ قتل النّفس بغير حقّ جُرم فظيع ، كفظاعة قتل النّاس كلّهم . والمقصود التّوطئة لمشروعيّة القصاص المصرّح به في الآية الآتية { وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس } [ المائدة : 45 ] الآية .
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم ، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطميناً لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيتْ مصالحُها ، كمشروعية القصاص ، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوَى منه حتّى دعا ذلك الاشتباهُ بعضَ الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذَنْب آخر ، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المُجازاة بالقتل ؛ لأنّ النفوس جُبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القُوّة الغضبيّة ، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع ، وإذا طمِع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة ، ثُمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه . وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم ، قال قائلهم ، وهو قيس بن زهير العبسي :
شَفيت النفسَ من حَمل بن بدر *** وسيفي من حُذيفة قد شَفَانِي
ولذلك قال الله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } [ البقرة : 179 ] .
ومعنى التشبيه في قوله : { فكأنّما قتل النّاس جميعاً } حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائِه أو الستر عليه ، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض ، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس . فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعاً ، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس . على أنّ فيه معنى نفسانياً جليلاً ، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني النّاشىء عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نُظم العالم ، فالّذي كان من حيلته ترجيحُ ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دَوْماً إلى هضم الحقوق ، فكلّما سنحت له الفرصة قَتل ، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعاً لفعل . ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته ، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلاّ بجزاء قاتله بمثل جرمه ؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلاً : كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به ، وكيف نداوي الداء بداء آخر ، فبُيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعاً . وقد ذُكرتْ وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر .
ومعنى { ومن أحياها } من استنقذها من الموت ، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس ، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيى الناس جميعاً بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفاً ، أو من غلَّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب .
{ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ } .
تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل ، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة ، وأنّهم مع ما شدّد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون ، كما أشعر به قوله { بعد ذلك } ، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبيّنات . ٍ وحذف متعلِّق « مسرفون » لقصد التّعميم . والمراد مسرفون في المفاسد الّتي منها قتل الأنفس بقرينة قوله : { في الأرض } ، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر { في الأرض } [ البقرة : 60 ] مع ذكر الإفساد .
وجملة { ثمّ إنّ كثيراً منهم } عطف على جملة { ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات } . و ( ثُمّ ) للتراخي في الرتبة ، لأنّ مجيء الرّسل بالبيّنات شأن عجيب ، والإسراف في الأرض بعد تلك البيّنات أعجب . وذِكر { في الأرض } لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه ، كما في قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ] . وتقديم { في الأرض } للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميّة شأنَها .
وقرأ الجمهور { رسُلنا } بضمّ السّين . وقرأه أبو عمرو ويعقوب بإسْكان السّين .