قوله تعالى : { كهيعص } قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وضده ابن عامر ، وحمزة ، وبكسرهما : الكسائي و أبو بكر ، والباقون بفتحهما . ويظهر الدال عند الذال من صاد . ذكر ابن كثير ، و نافع ، و عاصم و يعقوب ، والباقون بالإدغام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو اسم من أسماء الله تعالى . وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن . وقيل : اسم للسورة . وقيل : هو قسم أقسم الله به . ويروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله { كهيعص } قال : الكاف من كريم وكبير ، والهاء من هاد ، والياء من رحيم ، والعين من عليم ، وعظيم ، والصاد من صادق . وقال الكلبي : معناه : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم ببريته ، صادق في وعده .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد فهذا تفسير لسورة " مريم " أكتبه بعد أن كتبت قبله تفاسير لسورة : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة ، يونس ، هود ، يوسف ، الرعد ، إبراهيم ، الحجر ، النحل ، الإسراء ، الكهف . . .
والله –تعالى- أسأل ، أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، ونافعاً لعباده ، وشفيعاً لنا يوم نلقاه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة مريم من السور المكية .
قال القرطبي : وهي مكية بالإجماع . وهي تسعون وثماني آيات( {[1]} ) .
وقال ابن كثير : وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة ، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبي طالب –رضي الله عنه- قرأ صدر هذه السورة على النجاشي( {[2]} ) .
وكان نزولها بعد سورة فاطر( {[3]} ) .
2- ويبدو أن تسميتها بهذا الاسم كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج الطبراني والديلمي ، من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ولدت لي الليلة جارية . فقال : والليلة أنزلت على سورة مريم .
وجاء فيما روي عن ابن عباس ، تسميتها بسورة " كهيعص " ( {[4]} ) .
وقد تكرر اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة ، ولم تذكر امرأة سواها باسمها الصريح .
3- والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها زاخرة بالحديث عن عدد من الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- .
فقد افتتحت بالحديث عن تلك الدعوات التي تضرع بها زكريا إلى ربه ، لكي يهب له وليا ، يرثه ويرث من آل يعقوب .
وقد استجاب الله –تعالى- دعاء زكريا ، فوهبه يحيى كما قال –تعالى- : [ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ] .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن قصة مريم ، بصورة فيها شيء من التفصيل ، فذكرت اعتزالها لقومها ومجيء جبريل إليها وما دار بينه وبينها من محاورات ، ومولدها لعيسى وإتيانها به قومها ، وما دار بينها وبينهم في شأنه . ثم ختمت هذه القصة بالقول الحق في شأن عيسى ، قال –تعالى- : [ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه ، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ] .
5- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن طرف من قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ، وختمت حديثها عن الرسل الكرام بقوله –تعالى- : [ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ، وممن حملنا مع نوح . ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل . وممن هدينا واجتبينا ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا ] .
6- ثم حكت السورة الكريمة أنماطاً من الشبهات التي تفوه بها الضالون ، ومن هذه الشبهات ما يتعلق بالبعث والنشور ، ومنها ما يتعلق بموقفهم من القرآن الكريم ومنها ما يتعلق بزعمهم أن الله ولداً . . . وقد ردت على كل شبهة من هذه الشبهات بما يبطلها ، ويخرس ألسنة قائليها .
ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ويقول الإنسان أئذا مامت لسوف أخرج حيا* أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً ] .
وقوله –سبحانه- : [ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً . أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا . كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا . ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً ] .
وقوله –عز وجل- : [ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئاً إدا . تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولدا . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ] .
7- ومن هذا العرض الإجمالي لآيات السورة الكريمة ، يتبين لنا أن سورة مريم قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى نفي الشريك والولد عن ذاته –سبحانه- ، كما اهتمت –أيضاً- ، وعلى نفي الشريك والولد عن ذاته –سبحانه- ، كما اهتمت –أيضاً- بإقامة الأدلة على أن البعث حق ، وعلى أن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة .
كما زخرت السورة بالحديث عن قصص بعض الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- تارة بشيء من التفصيل كما في قصة زكريا وعيسى ابن مريم ، وتارة بشيء من الاختصار والتركيز كما في قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس .
كما نراها بوضوح تحكي شبهات المشركين . ثم ترد عليها بما يبطلها . . .
وقد ساقت السورة ما ساقت من قضايا ، بأسلوب عاطفي بديع ، يهيج المشاعر نحو الخير والحق والفضيلة ، وينفر من الشر والباطل والرذيلة ، ويطلع العقول على نماذج شتى من مظاهر رحمة الله –تعالى- بعباده الصالحين ترى ذلك في مثل قوله –تعالى- : [ ذكر رحمة ربك عبده زكريا ] .
وفي مثل قوله –سبحانه- : [ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ] .
8- قال بعض العلماء ما ملخصه : والظل الغالب في جو السورة هو ظل الرحمة والرضا والاتصال . فهي تبدأ بذكر رحمة ربك لعبده زكريا . ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيراً . ويكثر فيها اسم [ الرحمن ] .
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية . ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال ، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته . . .
كذلك تحس أن للسورة إيقاعاً موسيقياً خاصاً ، فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء ، وفيه عمق كألفاظ : رضيا ، سريا ، حفياً ، نجياً . . .
فأما المواضع التي تقتضي الشدة والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة في الغالب ، كألفاظ : ضدّاً ، هدّاً ، إدّاً ، أزّاً( {[5]} ) .
وبعد ؛ فهذا تعريف لسورة مريم ، نرجو أن يكون القارئ له ، قد أخذ صورة مركزة عن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سورة ( مريم ) من السور القرآنية التى افتتحت ببعض حروف التهجى .
وقد سبق أن تكلمنا بشىء من التفصيل ، عن آراء العلماء فى المراد بهذه الحروف التى افتتحت بها بعض السور ، وذلك عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس . . .
ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى - ، هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلامهو من جنس ما تؤلفون به كلامكم ، ومنظوماً من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلاً من عند الله فهاتوا مثله . أو عشر سور من مثله ، بل بسورة واحدة من مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك . . .
فلما عجزوا - وهم أهل الفصاحة والبيان - ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }
هذه السورة مكية بإجماع ، إلا السجدة منها ، فقالت فرقة هي مكية ، وقالت فرقة : هي مدنية{[1]}
اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور على قولين فقالت فرقة : هو سر الله في القرآن لا ينبغي أن يعرض له ، يؤمن بظاهره ويترك باطنه . وقال الجمهور بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالاً على كلمة وليس في كتاب الله ما لا يفهم ، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة ، ونذكر الآن ما يختص بهذه السورة . قال ابن عباس وابن جبير والضحاك هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله تعالى الكاف من «كبير » وقال ابن جبير أيضاً الكاف من «كاف » وقال أيضاً هي من «كريم » فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه تعالى . قالوا والهاء من «هاد » والياء من «علي » وقيل من «حكيم » وقال الربيع بن أنس هي من «يأمن » لا يجير ولا يجار عليه . قال ابن عباس والعين من «عزيز » وقيل من «عليم » وقيل من «عدل » ، والصاد من «صادق » وقال قتادة بل { كهيعص } بجملته اسم السورة ، وقالت فرقة بل هي اسم من أسماء الله تعالى . وروي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول يا { كهيعص } اغفر لي ، فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى ويحتمل ان يريد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء التي تضمنها { كهيعص } ، كأنه أراد أن يقول «يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا صادق » اغفر ، فجمع هذا كله باختصار في قوله يا { كهيعص } . وقال ابن المستنير وغيره { كهيعص } عبارة عن حروف المعجم ، ونسبه الزجاج الى أكثر أهل اللغة ، أي هذه الحروف منها { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } وعلى هذا يتركب قول من يقول ارتفع { ذكرُ } بانه خبر عن { كهيعص } ، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون . وقرأ الجميع كاف بإثبات الألف والفاء . وقرأ نافع الهاء والياء وبين الكسر والفتح ولا يدغم الدال في الذال{[7914]} ، وقرأ ابن كثير ونافع أيضاً بفتح الهاء والياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضم الهاء وفتح الياء ، وروي عنه ضم الياء ، وروي عنه أنه قرأ كاف بضم الفاء .
قال أبو عمرو الداني : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس الضم الخالص الذي يوجب القلب ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وقرأ عاصم بكسرها ، وقرأت فرقة بإظهار النون من عين وهي قراءة حفص عن عاصم وهو القياس إذ هي حروف منفصلة ، وقرأ الجميع غيره بإخفاء النون جعلوها في حكم الاتصال ، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من صاد ، وقرأ أبو عمرو بإدغامه في الذال من قوله { ذكر } ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص بعضها من بعض .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة مريم مكية كلها، إلا آية سجدتها، فإنها مدنية.
الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب 437 هـ :
وكان نزولها قبل أن يهاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، لأنهم قرأوا صدرها على النجاشي بعد هجرتهم إلى أرض الحبشة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مكية بإجماع، إلا السجدة منها، فقالت فرقة هي مكية، وقالت فرقة: هي مدنية.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وقال هبة الله المفسر: هي مكية غير آيتين منها، قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} والتي تليها [مريم: 59، 60].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
سورة مريم عليها السلام مقصودها:
بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإفاضة النعم على جميع خلقه، المستلزم للدلالة على اتصافه لجميع صفات الكمال، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب، المستلزم لتمام القدرة الموجب للقدرة على البعث والتنزه عن الولد لأنه لا يكون إلا لمحتاج، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سمي له سبحانه فضلا عن مثيل، وعلى هذا دلت تسميتها بمريم، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة وشمول العلم، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقا الآدمي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد؛ ونفي الولد والشريك؛ ويلم بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد.. هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة، كالشأن في السور المكية غالبا. والقصص هو مادة هذه السورة. فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى. فقصة مريم ومولد عيسى. فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه.. ثم تعقبها إشارات إلى النبيين: إسحاق ويعقوب، وموسى وهرون، وإسماعيل، وإدريس. وآدم ونوح. ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة. ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث، ونفي الولد والشريك، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين. ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث. واستنكار للشرك ودعوى الولد؛ وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة.. وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل. وللسورة كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها، ويتمشى في موضوعاتها..
إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية.. الانفعالات في النفس البشرية، وفي "نفس "الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوره جمادا لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجو العام للسورة. حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا: (أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا).. أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة. وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى. والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) وهو يناجي ربه نجاء: (إذ نادى ربه نداء خفيا).. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا. ويكثر فيها اسم (الرحمن). ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حنانا (وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا). ومن نعمة الله على عيسى أن جعله برا بوالدته وديعا لطيفا: (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا).. وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال. كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته.. كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا. فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق: رضيا. سريا. حفيا. نجيا.. فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة دالا في الغالب. مدا. ضدا. إدا. هدا، أو زايا: عزا. أزا. وتنوع الإيقاع الموسيقى والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة...
ويسير السياق مع موضوعات السورة في أشواط ثلاثة: الشوط الأول يتضمن قصة زكريا ويحيى، وقصة مريم وعيسى. والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية عيسى التي كثر فيها الجدل، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى. والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك الأمة. ثم إشارات إلى قصص النبيين، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء. وينتهي بإعلان الربوبية الواحدة، التي تعبد بلا شريك: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته. هل تعلم له سميا) والشوط الثالث والأخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث، ويستعرض بعض مشاهد القيامة. ويعرض صورة من استنكار الكون كله لدعوى الشرك، وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون! (وكم أهلكنا قبلهم من قرن. هل تحسن منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم. ورويت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي وابن منده وأبو نعيم وأبو أحمد الحاكم: عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال: والليلة أنزلت علي سورة مريم فسمها مريم. فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته. واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري.
وابن عباس سماها سورة كهيعص، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها. ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين ولعله لم ير الثاني اسما.
وهي مكية عند الجمهور. وعن مقاتل: أن آية السجدة مدنية. ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.
وذكر السيوطي في الإتقان قولا بأن قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} الآية مدني، ولم يعزه لقائل...
نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه. وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا.
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصل في غيرها. ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.
وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين. وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين.
ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير.
وهل يثبت الخطي إلا وشيجه ثم التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم. والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى.
والتنويه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته. وأن الله يسره بكونه عربيا ليسر تلك اللغة.
والإنذار مما حل بالمكذبين من الأمم من الاستئصال.
واشتملت على كرامة زكريا إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولدا على الكبر وعقر امرأته.
وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام، ومثله كلامه في المهد.
والتنويه بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريس عليه السلام.
وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبي بن خلف والعاصي ابن وائل وتبجحهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.
وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.
وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى.
والتنويه بالقرآن ولملته العربية، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم.
وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمان ست عشرة مرة، وذكر اسم الرحمة أربع مرات، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمان. والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن}.
ووقع في هذه السورة استطراد بآية {وما نتنزل إلا بأمر ربك}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد ابتدأت هذه السورة الكريمة بذكر معجزات خارقة للعادة في الوجود الإنساني.. ابتدأت السورة الكريمة بذكر نبي الله زكريا... ثم جاء بالمعجزة الكبرى الخارقة لمجرد الأسباب والمسببات وبيان أنها لا تلزم الفاعل المختار وهي خلق عيسى من غير أب من عذراء بتول فقال تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا 16}... ويجيء في السورة أخبار الأنبياء السابقين وما اقترن برسالتهم من معجزات وما جاءوا به من شرائع، فابتدأ بقصة أبي العرب إبراهيم عليه السلام، وفيها تتجلى محبة الأبناء للآباء فيريد لمحبته أباه أن يجنبه عبادة الأوثان ويدعوه إلى تركها فيقول: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا...} ثم ذكرت قصة موسى وكيف وهب الله من رحمته معه أخاه هارون نبيا، ثم ذكر أخبار إسماعيل عليه السلام منفردا عن أولاد إبراهيم عليه السلام، وفي هذا إشارة إلى أنه عمود نسب متفرع من إبراهيم عليه السلام وأنه سيكون منه محمد خاتم النبيين... وتفصل السورة الكريمة جزاء المتقين وعقاب الكافرين في بيان معجز ككل آيات القرآن وسوره. وتجئ العبر في الآيات المختلفة الكثيرة،...وختم السورة الكريمة ببيان المؤمنين، وما كتب لهم من جزاء يوم القيامة، فقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا 96 فإنما يسّرناه بلسانك لتبشر به التقين وتنذر به قوما لدّا 97 وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا 98}.
وهكذا نجد السورة ابتدأت بأن الحكمة الله تعالى اقتضت أن يخلق يحيى عليه السلام من شيخ هرم امرأته عاقر، ويخالف بذلك الأسباب والمسببات، ثم يأتي سبحانه بخلق عيسى عليه السلام من غير أب ليكون وجوده عليه السلام معجزة، وهو عبد من عباد الله ويختمها بالمعجزة الكبرى وهو القرآن، {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا 97}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ويتجلى من سياق هذه السورة على العموم التركيز على وحدة الرسالة الإلهية، وإن تعدد حملتها الذين تلاحقوا عليها جيلا بعد جيل، والتركيز على مضمون تلك الرسالة، وكونها رسالة تثبت الوحدانية لله، وتنفي عنه الشريك والولد نفيا باتا، كما تثبت البعث بعد الموت، وتقرر الجزاء الأخروي في الدار الآخر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لقد أُريد لاسم مريم بنت عمران أن يكون عنواناً لهذه السورة، لأن الله تحدث فيها عن قصة ولادتها لعيسى (عليه السلام) بما يتمثل فيها من أجواء روحية، وما يحيط بها من أوضاع غيبيّة، وما يهيمن عليها من إعجاز، ما يجعل قصته تتصل بأكثر من بُعدٍ من أبعاد العقيدة، في عالم الغيب والشهود. وربما كانت هناك غاية أخرى من تسمية السورة باسمها، وهي التذكير بهذه المرأة الطاهرة التي عاشت الإيمان في طفولتها وشبابها، في ابتهال خاشع مع الله، في محرابها الذي كان موقعاً من مواقع الفيض الإلهي بالرحمة، واللطف، والعطاء الروحي الذي كان ينهمر عليها من كل جانب. ولهذا فإنها كانت تعيش هذا اللطف الإلهي بعمق في الروح، وامتدادٍ في الفكر، فلا نستغرب حصول أي شيء معجز في حياتها، خلافاً للاّتي يعشن الإيمان بطريقة تقليدية محدودة، ونظرة ذاتية مغلقة. هذا بالإضافة إلى أن ذلك كله يجعلها الإنسانة الوحيدة في عصرها التي يمكن أن تكون موضعاً لكرامة الله، وإظهار قدرته، في خلق هذه الظاهرة الإنسانية الجديدة وهي ولادة عيسى (عليه السلام) من دون أب...
أما أغراض هذه السورة، فهي أغراض السور المكية التي تعمل على تحريك الجانب العقيدي بأسلوب التبشير والإنذار، ومحاولة التأكيد عليه من خلال تقديم الأنبياء والأولياء بطريقة قصصية، تبرز لنا الأفكار التي كانت تتحرك في ساحة الرسالة والأفكار المضادّة التي كانت تواجه بها، والأساليب التي كان يستخدمها الأنبياء في سبيل الإقناع، إلى جانب الأساليب التي كان يستخدمها الكافرون في إثارة الغبار أمام رسل الله. وتطل من خلال ذلك كله على فكرة التوحيد والشرك في ساحة الصراع العقيدي، لتطرح الخط العريض ثم تتحدث عن التفاصيل عبر نماذج الساحة الواقعية. وهكذا تطوف السورة على كل فئات المجتمع على تنوع موقفها من الرسالة، من الذين أفاض الله عليهم بنعمة الهدى والإيمان، والمغضوب عليهم الذين ابتعدوا عن نعم الله ورحمته، والتائبين الذين تراجعوا عن الضلال، وساروا في طريق الهدى المفتوح على كل حق وخير وإيمان، ثم تواجه الجميع بالنتائج الإيجابية والسلبية في مسألة الثواب والعقاب للتائبين وللغاوين. وهكذا تقدم السورة جواً متحركاً يجمع بين الفكرة والواقع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة: 1 يشكل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيح (عليهم السلام) ويحيي وإِبراهيم (عليهما السلام) بطل التوحيد، وولده إِسماعيل، وإِدريس وبعض آخر من كبار أنبياء الله، الجزء الأهم في هذه السورة، ويحتوي على أُمور تربوية لها خصوصيات مهمّة.
الجزء الثّاني من هذه السورة والذي يأتي بعد القسم الأوّل من حيث الأهمية عبارة عن المسائل المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين، وثواب المتقين، وأمثال ذلك.
القسم الثّالث، وهو المواعظ والنصائح التي تكمل في الواقع الأقسام السابقة. 4 وأخيراً، فإِنّ آخر قسم عبارة عن الإِشارات المرتبطة بالقرآن، ونفي الولد عن الله سبحانه، ومسألة الشفاعة، وتشكل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثراً من أجل دفع النفوس الإِنسانية إلى الإِيمان والطهارة والتقوى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كهيعص"... القول في ذلك عندنا نظير القول في "الم "وسائر فواتح سور القرآن التي افتتحت أوائلها بحروف المعجم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور على قولين فقالت فرقة: هو سر الله في القرآن لا ينبغي أن يعرض له، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالاً على كلمة وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة...وقال ابن المستنير وغيره {كهيعص} عبارة عن حروف المعجم، ونسبه الزجاج الى أكثر أهل اللغة، أي هذه الحروف منها {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} وعلى هذا يتركب قول من يقول ارتفع {ذكرُ} بأنه خبر عن {كهيعص}، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون...
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :
[كهيعص] الله أعلم بمراده بذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كاف. ها. يا. عين. صاد.. هذه الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن، فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن...